الليلة، ترقص فاطمتان وتندبان وتفرحان بجسديهما على خشبة «مسرح المدينة». «فاطمة» عرض طربيّ قاسٍ، موشّح بالسواد، سيسكرنا بالحزن من توقيع الكوريغراف علي شحرور (1989). تكمن أهمية العرض في أنّه يقترح بحثاً في لغة رقص بعيدة عن مفردات الرقص المعاصر ومدارسه الأوروبية والأميركية. عرض يبحث عن لغة وحركة جسد نابعتين من مجتمعنا وثقافتنا.
لذلك، اختار علي شحرور هذه المرة العمل مع راقصتين غير محترفتين بحثاً عن حركة عفوية نابعة من التجربة الخاصة لجسدي الراقصتين. تخصّصت رانيا الرافعي في السينما. أما أمامة حميدو، فتخرجت من كلية المسرح في الجامعة اللبنانية. هكذا، يستعير العرض لغته من الحياة اليومية بحثاً عن الجماليات الكامنة فيها.
«فاطمة» يتكلم عن النساء، وأجسادهن، وحركتهن. كان طبيعياً أن يتوجه البحث إلى حالات يتجلى فيه جسد المرأة المشرقية بعيداً عن القيود الاجتماعية والدينية. حرية جسد المرأة نجدها عادةً في سياقات مثل الفرح، وخصوصاً في الرقص البلدي وما يتضمنه من إيحاءات جنسية متفلتة ومكبوتة في آونة واحدة. كذلك نجده في العزاء، حيث لا رقيب بطريركياً على امرأة تتفجع نواحاً ولطماً ولو وصل بها الأمر إلى الكشف عن رأسها وتمزيق ثيابها. في الحالتين، نشهد تحرر جسد المرأة ضمن الحيز العام، وعلى مرأى من العين البطريركية التي تحرم ذلك التحرر في أغلب السياقات العلنية الأخرى. أهمية فعل شحرور أنه لم يبحث عن حركة جسد غريبة عن ثقافتنا، بل نقل المفردات الحركية التي ينتجها تحرّر جسد المرأة المشرقية في سياقات محددة إلى الخشبة، ثم عمل مع الراقصتين على تكرار تلك الحركات بحثاً عن الجماليات الكامنة فيها وتظهيرها ثم تطويرها.
عبر نزع تلك اللغة الجسدية من سياقات اجتماعية علنية، ونقلها إلى سياق علني آخر يدعى خشبة المسرح، ألغى شحرور السياق الاجتماعي وما يلحق به من مبررات وتحفظات، ووضع الجمهور في مواجهة مباشرة مع لغة حركية صافية. أصبح المشاهد في مواجهة مباشرة مع حركة مثل اللطم، قد يكون اعتاد علاقة تربطه بها كمتفرج أو مساهم في سياقات معينة، لكن وضع الحركة الآن تحت الضوء وخلف الجدار الرابع يعيد التركيز على خصائص أخرى في الحركة كجماليتها ونوعيتها وأثرها على جسد الراقص وجسد المتفرج.
في «فاطمة»، تنطلق الراقصتان بحركة اللطم الاعتيادية وتصعدان سرعة الحركة والتكرار، ثم تستعيران من الدراويش حركة الدوران حول الذات، وتتبرجان وترقصان الرقص البلدي، وتنتحبان، وتندبان وتلطمان وتفرحان. لا يلغي العرض الإحساس المرافق لكل حركة، محوّلاً إياها إلى حركة ميكانيكية، بل على العكس تنقل الراقصتان الإحساس المرافق لكل سياق بحد ذاته، فتَنتج مشاهد بليغة بإحساسها وتأثيرها على الجمهور أكانت حزينة وقاسية أم مفرحة. تكرار الحركة وتصعيدها يوصلان الراقص والمتفرج إلى النشوة. وكما نغرق في جمالية التفاصيل في الأغنية الطربية الشرقية، كذلك في «فاطمة»، حيث نغرق في أصغر التفاصيل الحركية لتكتسب الحركة جمالية خاصة تصل إلى النشوة.
تلك العلاقة بالحالة الطربية، تتجسّد في خيارات الكوريغرافيا عبر مشاهد منفصلة، كما في تركيبة الأغنية الطربية، تقدم الراقصتان الحركة الأساسية في كل مشهد، ثم تعمدان إلى التكرار والتطريب على الحركة، كمن ينتشي في تنويع «العِرب» الحركية. وإذا كانت لحظات الصمت من العناصر الأساسية في الأغنية الطربية لبناء التصعيد، ففي «فاطمة» مساحة أساسية للصمت المتجسد في لحظات أيقونية صامتة تقدمها الراقصتان أحياناً. تلك الصورة الأيقونية في سكونها تتساوى مع الحركة المتكررة. في الحالتين، تشعر بأن الوقت توقف أو امتد إلى ما لا نهاية. من هنا، كان طبيعياً أن يقع الخيار الموسيقي على أغنيات لأم كلثوم.
في روايته «سينالكول»، يقول إلياس خوري كمن يكتب دراماتورجيا عرض «فاطمة»: «لم يرَ كريم والده يبكي إلّا في لحظات الطرب حين يصير صوت المغنية المصرية (أم كلثوم) رحماً كبيرة تتّسع لجميع الرغبات والأحزان». بكاء، رحم، رغبات، وأحزان، تلك هي عناصر عرض «فاطمة». وفي أي أغنية يمكن أن نجدها مجتمعة غير عند «كوكب الشرق»؟ هنا أيضاً يأتي الخيار الموسيقي (توليف ساري موسى) جزءاً لا يتجزأ من البحث في تفاعل الجسد المشرقي مع إنتاجاته الموسيقية. خلال العرض، تلطم الراقصتان على أغنية «أنا وإنت ظلمنا الحبّ» وترقصان البلدي على «ألف ليلة وليلة» وتدوران على «الأطلال»، فيما تشارك أمامة غناءً في بعض المشاهد. وكي تتخذ الحركة مداها وثقلها في انفلاتها أو انحصارها، وتبقى نقطة الارتكاز الوحيدة تحت الضوء (علاء ميناوي)، اختار شحرور ترك خشبة المسرح فارغة إلا من عنصر سينوغرافي (نتالي حرب) في الخلفية.
يقول شحرور عن «فاطمة»: «إنه عرض راقص ينطلق من الحميمي والخاص ليطرح تساؤلات عن علاقة الجسد بالدين والمجتمع والموروث الثقافي»، إضافةً إلى تلك التساؤلات الأساسية والضرورية، نجح شحرور مع رانيا الرافعي وأمامة حميدو في تقديم اقتراحات للغة رقص نابعة من ثقافتنا. وبرغم أنها ما زالت في أولى مراحلها وتحتاج إلى تراكم وتشارك مع تجارب فنانين آخرين تسهم في تطوير مفرداتها وصقلها كي تصب في خلق لغة رقص معاصر شرقية، إلاّ أنها بداية مهمة في هذه المرحلة من تطور عمل الكوريغراف اللبناني الشاب.




«فاطمة»: 20:30 مساء اليوم وغداً، و1و2 شباط (فبراير) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/341470