لم يتغيّر أسعد الجبوري كثيراً. سلك الشاعر العراقي طريقاً جانبية ضيقة في باكورته «ذبحت الحلم هل ذبحت الوردة» (1977)، مكتفياً بقصيدة تستثمر المعجم التقليدي مع طرافة متأتية من عنف بلاغي يرتطم بصور غرائبية أفسحت له مكاناً داخل ملعب السريالية، التي راحت مذاقاتها تتسرب أكثر فأكثر إلى تجربته، وتتحول إلى أسلوب وفن شخصي كاملين.
هكذا، واظب على الحفر في المكان نفسه وفي الورشة اللغوية ذاتها، فنشر «أولمبياد اللغة المؤجلة» و«نسخة الذهب الأولى» و«على وشك الأسبرين»، وغيرها من المجموعات التي منحته خصوصية وفرادة، لكنّ هذه الخصوصية أعاقت قراءة تجربته بطريقة صائبة ومنصفة أيضاً، بينما راح هو نفسه يمتدح افتتانه بالسريالية، ويزدري الكتابة التي يكتفي فيها الشاعر بدور «شرطي مرور لتنظيم مرور الكلمات فقط».
مجموعته الجديدة «متى تخلد ساعتي للنوم» (دار النسيم) خطوة إضافية داخل هذه اللغة، التي لا تتوقف عن مباغتة القارئ بغرابة مجازاتها، حيث الشاعر هو «مؤسس بنك الخيال»، كما جاء في سيرته الذاتية المثبتة في آخر المجموعة، التي يبدو أنها نص متواصل ينتهي كل مقطع فيه بجملة «شيء من هذا القبيل»، كما في نصوصه السابقة، تصادفنا كتابة تتعمد إفساد الحواس وزحزحة المعاني القاموسية، بينما تحظى المادة السريالية فيها بانطباعات معدنية هي حصيلة شِجار لغوي وذهني مع حياة معاصرة، تطحن إنسان القصيدة، وتقدمه إلينا كضحية سريالية جاهزة. هكذا نقرأ عن «المندوب السامي لقصص الجن»، وعن «مرافق الجوكندا إلى عيادة تجميل»، ونقرأ أنّ «الليل بطارية لا تناسب المتاحف»، وأن «العطر ذراعُ الورد»، وأن الشاعر «يوسعُ في اللغة ضلاله». لعل الضلال هو خلاصة هذه التجربة التي «ضلّ» صاحبها وهو بكامل قواه الشعرية عن الطريق القويم للشعر. العبارات التي تبدو منفّرة أحياناً مثل «من نهديها يخرج الغاز»، و«الثمار المتساقطة من صدور الإناث ومطابعهن الأنطولوجية»، تتجاور مع استعارات مكتملة المعنى والدهشة مثل «وأنتَ مقبلٌ على تسريح قوى البراندي من قنينة مهيبة». في كل الأحوال، يصعب العثور على مقطع كامل أو سطور متتالية يستقيم فيها سردٌ واضحٌ للمعنى. هناك صور تنجو من هذا التلاطم اللغوي، لكنّ الشاعر المقيم في الدنمارك مشغول دوماً بكسر أي سلاسة أو عفوية، بينما ساعته الشعرية تواصل ضخّ الدقائق والثواني ولا «تخلد للنوم».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza