لندن | عندما تشن الإمبراطوريات حروبها المعقدة الجديدة على الدول الصغيرة، فإنّها لا تكتفي بإطلاق عملائها الذين توزّع عليهم ألقاباً فضفاضة من صيغة «الجيش الحرّ» أو «مقاتلي الحريّة» أو حتى «الثّوار». بل تطلق في وقت متزامن حروباً ثقافيّة وإعلاميّة بلا هوادة تمهّد وتغطّي وتبرر للغزاة غزوهم وتشيطن أعداءهم. هكذا عندما تحولت الحرب الأميركيّة الطويلة على سوريا إلى مواجهة عسكرية عام 2011، انخرطت قطاعات واسعة من المؤسسات الإعلاميّة الغربيّة الكبرى في المجهود الحربي ضد الدولة السورية وتوحدت على إنتاج مواد منحازة تقلب الحقائق وتجتزئ منها حكايات للإضرار بسمعة النظام، والإساءة إلى معنويات المواطنين السوريين، وتسهيل تجنيد المرتزقة، كما تبرير جرائم الديمقراطيات الغربيّة المزعومة أمام شعوبها جراء تورّطها السّافر في حروب عدوانيّة. أثارت تلك الحرب ــ كما شقيقاتها ضد العراق وليبيا ـــ شهيّة المبدعين المسترزقين وأشباه المثقفين وجمعيات المجتمع المدني المشبوهة لجمع جزء من الثروات التي أنفقتها دول الغرب ــ من أموال حلفائها العرب الخليجيين ـــ وبسخاء غير مسبوق من خلال تقديم فنهم وإبداعاتهم أضحيات على مذبح الدّجل الإمبراطوري وبروباغندا تحالف قوى الشمال.
روزماند بايك في دور الصحافية ماري كولفين

أحد هؤلاء هو المخرج ماثيو هينمان مخرج فيلم «حرب شخصيّة» الذي تطوّع لإنتاج فيلم وثائقي قليل القيمة قبله أطلق عليه اسم «مدينة الأشباح» (2017) جمع فيه قصاصات أفلام داعشيّة مصورة، ونسج منها حكاية لم تقنع وقتها أحداً بقيمتها الفنيّة أو التأريخيّة، لا سيّما أنه لم يجرؤ حينها على السفر شخصيّاً إلى سوريا. إذ اكتفى بالاعتماد على منتجات اسكافيي مشاغل البروباغندا المحليّة. مع ذلك، حظي عمله بالتغطية الواسعة وباحتفاء منظمات المجتمع المدني المتخصصة في استهداف سوريا. هينمان تشجع من خبرته تلك وحصل على الدعم المادي للانتقال إلى مساحة إنتاج فيلم درامي مستلهم من حياة مراسلة الحرب الأميركيّة ماري كولفين المعروفة بتهورها في العمل الميداني حيثما دعاها الواجب الإمبراطوري، لا سيّما في المنطقة العربيّة: من حرب المخيمات في لبنان إلى الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ومن غزو العراق إلى مظاهرات ميدان التحرير في مصر، إلى معارك المخابرات الأميركيّة والبريطانية في مصراتة وحي بابا عمرو قبل أن تلقى حتفها هناك لدى تعرّض مكان اختبائها لقصف عرضي.
كولفين لم تكن تتمتع بموهبة كتابة استثنائيّة أو بقدرة على التفكير المستقل. فشلت عدّة مرات في تقديم ولو مسودات لكتب اتفقت مع عدة ناشرين على تأليفها. تتسم تقاريرها المنشورة بالانحياز التام لمنطق الإمبراطوريّة، ولا يمكن التثبت من مصداقية معظمها. لكنّها مع ذلك اكتسبت سمعة أسطوريّة في أجواء الصحافة اللندنيّة حيث كانت تقيم، بسبب تهورها في العمل الميداني عبر الجبهات المشتعلة في العالم، لا سيّما بعدما فقدت إحدى عينيها أثناء تغطيتها الحرب الأهليّة في سيريلانكا. من حينها، صارت تضع غطاء عين قرصان أسود حيثما ذهبت. تجربتها تلك أصابتها بأمراض عصبيّة جعلتها أكثر تهوراً، فكانت على رأس القوات الأميركية الغازية في حربها الأولى والثانية على العراق. هكذا، نقلت تقارير لـ «سي. إن. إن» وصحف عدّة، ثم لاحقاً في ميدان التحرير في مصر حيث حوصرت في محل تجاري بين مجموعة من الملتحين الغاضبين، قبل أن تلتحق بكتائب «ثوار» الناتو في مصراتة الليبية التي كانت تقاتل لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي. وبين مهمة صحافيّة وأخرى، تورطت كولفين في زيجات فاشلة وعلاقات غراميّة (ويقال إنها كانت صديقة شخصيّة لياسر عرفات وكانت تسافر معه في طائرته الخاصة، وقد عثر في أغراضها على عقد ثمين من اللؤلؤ كان أهداها إياه احتفالاً بتوقيعه اتفاق أوسلو سيئ السمعة) وأدمنت السجائر والكحوليات، ولم تتكيف مطلقاً مع أجواء العمل المكتبي في مقر صحيفة «صنداي تايمز» المردوخيّة حيث كانت تعمل. وهي الصحيفة التي كانت فقدت أي مصداقية بقيت لها بعد الكشف عن تورطها في صناعة الأخبار الكاذبة والتعامل المشبوه مع سياسيين من اليمين البريطاني. وهكذا وافق مجلس التحرير الباحث عن استرداد سمعة الصحيفة المفقودة على إرسالها مع زميل مصور لنقل تقارير من الأرض عن الحرب على سوريا التي كانت في عين العاصفة الإعلاميّة الغربيّة، لتكون تلك مهمتها الأخيرة قبل موتها المؤسف مع إصابة زميلها بجراح بالغة.
فيلم دعائي محض يوظف الموت المأساوي لصحافيّة أميركيّة في الترويج لأعمال المجهود الحربي ضد سوريا


شريط هينمان عن كولفين (110 دقائق)، لم يرتق كثيراً عن عمله الملفق في «مدينة الأشباح» رغم المحاولة الممتازة من السينيماتوغراف روبرت ريتشاردسون (عمل مع سكورسيزي وتارنتينو...) لخلق أجواء متوترة وقلقة في مناطق القتال التي صوّر معظمها في الأردن. لم يساعده السيناريو الذي صاغه آرش عامل (عن مقالة طويلة في مجلة «فانيتي فير» الأميركيّة لماري برينير التي كتبت سيرة دونالد ترامب ومالالا يوسف وغيرهما من الشخصيات الملتبسة) وحاول من خلاله حشو عشرات الأحداث لتبرير تطويب كولفين نجمة رغم كل شيء على نحو لم يترك فيه مجالاً لتطور أي شخصيّة جانبيّة. بدت الممثلة روزماند بايك التي أسند إليها دور كولفين، شديدة الاستعراضيّة والمباشرة ومنفصلة تماماً عن الشخصيّة التي تحاول تقمصها وعن أداء بقيّة طاقم الممثلين حولها الذين كانوا بشكل عام أكثر مصداقيّة رغم بهتان وتسطح الشخصيات التي لعبوها. لعل الانتقالات الكثيرة بين الأحداث عبر عقد من حياة كولفين، كما مشاهد استعادة المشاعر المتكررة ــ مثلاً بينما ترقد في المستشفى ـ أربكت سرديّة الفيلم وحولته إلى ما يشبه حلقات مسلسل تناثرت واختلطت، ولم تساعد القصّة المهلهلة والحوارات المملة (على نسق السؤال الساذج تحت القصف: لماذا العالم ليس هنا؟) على التمسك بالمشاهد حتى النهاية. وإذا كانت ثمة رسالة وحيدة يمكن قراءتها من الشريط، فهي الأثمان الباهظة التي تتسبب بها الحروب لكل ضحاياها عسكريين ومدنيين وصحافيين حيث الموت مجاني ومكثّف وعابر.
تجارياً، فإنّ الشريط الذي عرض ضمن «مهرجان تورنتو السينمائي» الأخير، سيُطرح في بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) في الصالات اللبنانية، بينما تنظم «مؤسسة سمير قصير» في بيروت عرضاً خاصاً له لأغراض الترويج السياسي وجمع التمويل معاً في سينما «متروبوليس متروبوليس صوفيل» في 30 تشرين الأول (أكتوبر). «حرب شخصيّة» فيلم دعائي محض يوظف الموت المأساوي لصحافيّة أميركيّة متهورة تساعد في صوغ الأكاذيب الإمبراطوريّة لغاية صيد الجوائز الكثيرة المكرسة للترويج لأعمال المجهود الحربي ضد سوريا. لكنه دون شك سيكون موضع إحراج لجميع هيئات التحكيم مهما انحازت حيث كل ما فيه رديء ومزعج وممل، ربما مع استثناء بعض مشاهد القتال المحترفة التي رسمها ريتشاردسون. والأسوأ من ذلك كله أن كل هذا الفشل الدرامي يغلّف بشعار يستغبي جمهوره: «إن أقوى سلاح هو الحقيقة». أيتها الحقيقة كم من جرائم الإمبراطوريّة ترتكب باسمك.

* A private war بدءاً من تشرين الثاني (نوفمبر) في الصالات اللبنانية