لا شك في أننا ما زلنا نعيش حالات حروب شبه مستمرة، وما السلام في بعض المناطق الساخنة في هذا العالم إلا فترة استراحة محاربين استعداداً لجولات جديدة. على سبيل المثال، الحرب الكورية لم تنته بعد، وكذلك الحرب العالمية الأولى، بعدَ الحروب في شرقي أوروبا، في انتظار الجولات الجديدة فيها وفي شرقها.كذلك الأمر في شبه القارة الهندية التي شهدت حروباً عديدة بعد حرب الاستقلال عن بريطانيا، التي قادها الزعيم العالمي الأسطوري المهاتما غاندي، وقد بدأت بانفصال بعض أقاليمها الشرقية والغربية وقادت إلى ولادة دولة الباكستان على أسس دينية، ثم حرب باكستان الغربية مع باكستان الشرقية، ومن ثم حرب الهند والباكستان التي قادت إلى ولادة بنغلادش، وحروب الهند والصين، وما إلى ذلك.
وهنا، في بلاد الشام، الحرب العالمية الأولى لم تنته. لا يزال الغرب الاستعماري يحاول تمتين قبضته على بلادنا وثرواتنا وثقافتنا، فالصراع العربي-الإسرائيلي ما زال قائماً، على الصُعد كافة.
كما لا يمكننا نسيان عدوان الولايات المتحدة على العراق، المستمر إلى يومنا هذا، والعدوان السعودي - الإماراتي، المدعوم من الغرب الاستعماري على اليمن، والحرب في سوريا وعليها، وكذلك حرب البوليساريو مع المغرب، وحروب ليبيا مع جيرانها، ومصر وتشاد، ثم انتقالها إلى الداخل، وحرب لبنان من قبل، والقائمة تطول...

لكن ما علاقة الحروب التي تشهدها مختلف أنحاء العالم بالرقص؟ سؤال طرحته غي موريس محررة «كوريغرافيا حروب القرن الحادي والعشرين» (Choreographies of 21st Century Wars ـ مجموعة من المؤلفين ـ منشورات جامعة أوكسفورد ــــ 2016) المؤلف الفريد والأول في هذه المادة، على مجموعة من أهل الاختصاص والبحاثة والفنانين. علماً بأنها ناقدة فنية وفي مجال الرقص، مقيمة في نيويورك، ونشرت مقالات كثيرة عن الموضوع في عدد كبير من الصحف والمجلات المتخصصة. كما أنّها نشرت مؤلفات عدة عن الرقص وتتميز بوظائف عديدة ذات صلة بالرقص والفن. زميلها في التحرير، جنز غيرزدورف، أستاذ مساعد في مادة الرقص في «كلية ماريماونت مانهاتن»، نشر مقالات كثيرة عن الرقص وصاحب مؤلف عن الرقص في ألمانيا الشرقية، ويتميز بوظائف عديدة في مؤسسات مرتبطة بالرقص.
يهدف الكتاب ــ وفق المحررة والمحرر ـ إلى مساعدة القارئ على تقصي مكامن الكوريغرافيا بوصفها منشأ وممارسة ممسكة بعُقَدٍ وتجربة تفوق الوصف لعالم تطغى فيه الحروب. والمساهمات في هذا المؤلف، تقدم نظرات نقدية عن الانفصال بين فهمنا من جهة وحقائق الحروب من جهة أخرى، وتشجع الراقصين/ الفنانين وأهل الاختصاص على تقصي إمكانية أن تساعد الكوريغرافيا في إلقاء الضوء على كيفية عيشنا في هذا العالم وكيفية رقصنا فيه. فكل من كوريغرافيا الرقص والحرب، تلقيان الضوء على بعضهما بعضاً. وهنا تتبين حقيقة أن الكوريغرافيا سياسية بامتياز.
يضم الكتاب مقالات لمجموعة من الفنانين والأكاديميين المتخصصين في المادة ينتمون إلى ثقافات عديدة، تحلل الرابطة التاريخية بين الكوريغرافيا والحرب، وفي الوقت نفسه تكشف كيف أن الرقص والكوريغرافيا يقومان على نحو مستمر بخلق حركات مقاومة مضادة وبدائل من أجل السلام.
الكتاب، هو الأول الذي يبحث في العلاقة البيئية (interface) بين الكوريغرافيا والحرب، ذلك أن الكوريغرافيا كثيراً ما تم ربطها بالتدريبات العسكرية. كما يتعامل مع النظريات السياسية الحديثة التي تناقش مختلف أشكال الحروب. فالحروب بين عامي 1914 و1939 إضافة إلى الحرب الباردة، اندلعت بين قوى عالمية، لكن حروب اليوم هي غامضة ولا متساوقة وأقل من أن تكون حاسمة. ولذا، فإن السؤال المطروح بالعلاقة مع هذا «التطور» إنْ ثمة حاجة للكوريغرافيا، كونها نظاماً معرفياً وبُنى تنظيمية، للمراجعة كي تتمكن من التأمل والالتماس في حروب العالم المعولم الدائمة.

لاجئون إفريقيون

عبر ستة عشر فصلاً، يبحث المساهمون في هذا المؤلف، في كيفية ارتطام كل من الكوريغرافيا والحرب ببعضهما في هذا القرن. بعض أهل الاختصاص في مادة الكوريغرافيا يكتبون عن كيفية ربطهم الحروب المعاصرة في بعض إبداعاتهم. مساهمون آخرون بحثوا في كيفية ربطهم حروباً معاصرة بالكوريغرافيا عبر بعض أعمالهم المسرحية والرقصات والطقوس العسكرية والتدريبات العسكرية وكوريغرافيا ألعاب الفيديو والاستعراضات المتلفزة.
من المواد التي تم تقصيها في المؤلَّف، التعذيب والإرهاب وأوضاع اللاجئين والقلق المرتبط بالقتال وبجنود حفظ السلام والهوية القومية المرتبطة بالتدريبات العسكرية وما إلى ذلك.
ويلاحظ أن معظم المقالات تركز على كوريغرافيا المسرح، وقلة تبحث في كوريغرافيا ألعاب الفيديو والاستعراضات المتلفزة والتدريبات العسكرية المنتظمة.
المؤلَّف ـــ وهو أنطولوجيا مهمة وإن كانت أنجزت على حساب التعمق، فكل مادة من مواده تستحق مؤلفاً مستقلاً ــــ يستهل بحثه في طبيعة حروب القرن الحادي والعشرين ومعاني ذلك بفهم متجدد لدور الكوريغرافيا حيث يقوم المحرران بتعريف طبيعة النزاعات المعاصرة ومنها على سبيل الذكر الخصخصة والعولمة واللاتساوق وتحولها إلى حدث إعلامي (mediatization). مع تحلل الحدود بين الدول وعدم مقدرة الشعوب على حماية نفسها من الأخطار الخارجية، نجد أنها تعمد إلى التقوقع والميل إلى الداخل وما يحمل ذلك من عوارض أمنية ونتائج مثل ميل الفرق بين الحرب والسلم إلى التلاشي.
كما يقدم المؤلَّف تحليلاً لحقيقة أن الهدف الأصلي للكوريغرافيا كونها مفهوماً غربياً، كان تعزيز نظام مجتمعي محدد. ومن هنا تطرح أهمية تقصي كيفية تأثير الحدود المتلاشية والارتباك وتمدد العنف في الكوريغرافيا بصفتها نظام بناء لأي شكل من أشكال الحركة، وبصفتها نظاماً تحليلياً وتنظيم واتخاذ قرارات (decision-making).

War and P.E.A.C.E

على سبيل الذكر، خصّص أحد المساهمين مسألة الشعائر على الحدود بين بلدين، ونخص بالذكر هنا الاستعراض المثير المنتظم على نقطة الحدود الوحيدة، لكن المقفلة، بين الهند والباكستان (وا جاه/ wajah). وثمة مقال عن تأثير الرقابة في الكوريغرافيا العائدة للكاتب. كما عرض آخرون تجاربهم الخاصة ومن ذلك الوقار في الحركة: الرقص وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
لقد غطت هذه الأنطولوجيا مساحات كبيرة وأنشطة عديدة ضمن ظروف متباينة، ولعل أفضل أسلوب لعرض أهميتها هو في سرد المحتوى وهو التالي:
1) مقدمة المحررين: كوريغرافيا الحروب المعاصرة.
2) «ممنوع العبور» و«صمود»: تركيب رقصة حرب لامتساوقة
3) مساءلة الحقيقة: تقصي رشيد أُرمدان التعذيب في «شهود عاديون»
4) «ثمة جندي كامن في كل منا»: كوريغرافيا التجنيد الإجباري؟
5) لاجئون أفريقيون متباعدون في جنوب أفريقيا: عرض إسقاطات العنف «كل يوم وكل سنة؛ أنا أمشي».
6) من المعبد إلى ميدان المعركة: بهاراتا نتيام في حرب سريلانكا الأهلية.
7) كوريغرافيا الذكورية في الثقافة الإسرائيلية المعاصرة.
8) عواطف مؤقتة: الرقص والميديا ومحاربة الإرهاب.
9) شبح الحرب، مشهد سلام ملفت: احتفال إنزال العلم في نقطتي الحدود واجه والحسيني والا.
10) بيان من مبتدع كوريغرافيا.
11) الرقص في الربيع: الرقص والهيمنة والتغيير.
12) الحرب والترفيه عن جنود حفظ السلام والفن والتبادل الثقافي
13) الجسد في خط المواجهة الأول.
14) الكوريغرافيا-الجغرافية واستغلال السلطة السياسية والاجتماعية لفرض مفاهيم أساليب الحياة والموت على البشر: استوديو كباكو لفوستين لِنيكولا في جمهورية الكونغو الشعبية.
15) تحريك الأجساد وإزالتها في حروب المكسيك والولايات المتحدة الأميركية الباردة وحروب المخدرات وحروب الحدود والحروب على الإرهاب.
16) ما بعد كراناخ: حرب وتمثيل والجسد في «ثلاث دراسات ضغط جوي» العائدة لوليم فورسايث.
17) دور الكوريغرافيا في المجتمع المدني المُحاصَر: «ثلاث دراسات ضغط جوي» العائدة لوليم فورسايث.

«ممنوع المرور» فرقة رقص رام الله

لا يمكن لأي عرض ــ خصوصاً إذا كان محدوداً، كما الحال هنا ـــ تغطية جوانب المؤلف والموضوع كافة، ولن يكون من الصحيح تقديم عروض مختصرة للغاية عن محتوى كل فصل، إضافة إلى أن ذلك يتجاوز هدفنا من عروضنا هذه المؤلفات. لذا رأينا أن نمنح أحد العروض مساحة أكبر نسرد فيها جانباً من مسار التطبيق بكلمات صاحبه. وقد اخترنا منح عرض «ممنوع المرور» لفرقة «فنون» الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 هذه المساحة، كونه الوحيد الذي يتعامل مع عرض مسرحي في بلاد عربية. الكاتب، صاحب العرض، نيكولاس رو، أقام في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، تخرج في مدرسة الباليه الأسترالية وعمل مع فرقة الباليه القومية الفنلندية ومع فرقة مدينة سيدني للباليه وفرقة باليه نيوزيلندا الملكية وفرقة الرقص المعاصر التركية، وفرق الرقص الفلسطينية بالطبع، وغيرها. وهو صاحب مؤلف Raising Dust, A Cultural History of Dance In Palestine (راجع «الأخبار» 28/5/2016). وتالياً بعض ما كتبه عن العرض وعنوانه «ممنوع المرور» (الترجمة للسيدة مها حسن).

ممنوع المرور
تبدأ مسرحية «ممنوع المرور» بأربعة راقصين يستندون باسترخاء إلى جدار إسمنتي يتقاطع على نحو مائل مع الزاوية الخلفية اليمنى لخشبة المسرح. يتحرك الراقصون بضجر على أنغام أغنية صوفية، أيديهم مُوْثقة، وهم في انتظار المرحلة التالية من رحلة لا يمكن لهم التحكّم بمسارها. تُظلم خشبة المسرح ويبدأ عرض فيلم على شاشة. يجلس شاب مُوْثق اليدين وحافي القدمين ومعصوب العينين على كرسي من دون ظهر وسط زنزانة رطبة. يتغير المنظور لنرى المشهد من خلف العَصابة التي تغطي عيني الشاب، حيث تسمح له فتحة جانبية برؤية جندي يدخل. المشهد التالي هو حوار استجواب، يتبدّل ما بين وجهة النظر العميقة للسجين المعصوب العينين جزئياً، ولقطات أكثر اتساعاً لمسار الحوار.
ينتهي عرض الفيلم وتُسلَّط أضواء المسرح ثانية على الأربعة المستندين إلى الجدار. وبينما تتحول الأغنية الصوفية إلى قرع طبول، يرقص هؤلاء ببهلوانية عنيفة قبالة الجدار. يبدأ الراقصون بالابتعاد عن الجدار واحداً إثر آخر إلى أن يبقى واحد فقط على خشبة المسرح، عالقاً بضوء المصابيح الأمامية لسيارة قبالة الجدار، يتحول من التعبير عن الاستسلام إلى إبداء الندم.

عواظف مؤقتة

في الجانب الآخر من خشبة المسرح، تجلس امرأة وابنتها الصغيرة، كما يبدو، بصبر على مقعد طويل وهما تنظران إلى شخص مسؤول يجلس إلى مكتب في زاوية في مقدمة خشبة المسرح، ويبدو أنه لا يبالي بوجودهما. تحاول المرأة وابنتها، مستفيدتين من وزن المقعد، تحريكه ببطء عبر خشبة المسرح. يدخل أشخاص آخرون ويجلسون على المقعد أثناء رحلته للاقتراب أكثر فأكثر من المسؤول الجالس إلى المكتب، إلى أن يصبح شيئاً فشيئاً مزدحماً بأعداد تفوق مساحته ويبدأ الأشخاص الجالسون عليه بالتقاتل للحفاظ على دورهم في الطابور الذي تَشَكَّل. الحركة في هذا المشهد متواصلة لكنها مضبوطة على نحو متوتر، وتُراكِم ــ من خلال التكرار ـــ زخماً يوحي بإحساس شبيه بثقل الجو في غرفة مزدحمة فوق طاقتها. يلوِّح لهم المسؤول بيده ليرجعوا إلى الخلف، وينقل طاولته إلى وسط خشبة المسرح ويبدأ برؤية كل شخص والأوراق التي يقدمها له، واحداً إثر آخر. وبينما ينخرط هؤلاء معه بصبر في حوارات ثنائية، يدفعهم هو عندما يحاولون المرور خلف طاولته. يسمح لبعضهم ويمنع آخرين. يحصل شاب ـ يسعى للمرور خلف الطاولة ـ على مكان قربها ويُطلَب منه المراقبة. يغادر المسؤول المكان ويسلم موقعه للشاب الذي يرفض السماح بمرور امرأة أخرى. يتبادل الشاب والمرأة حواراً طويلاً يتحديان فيه بعضهما ويستخدمان الطاولة متراساً وسلاحاً ليدفع كل منهما الآخر ويجذبه. يخفت الضوء ليخفي الاثنين اللذين ظلت المشكلة بينهما من دون حل، ليواصلا النزاع حول الطاولة.
يُعرَض فيلم تظهر فيه شوارع وصفوف مدرسية وساحات لعب خالية.
الرقص والكوريغرافيا يخلقان باستمرار حركات مقاومة مضادة وبدائل من أجل السلام

تجلس فتاة شابة بقلق في غرفة نومها، بينما تدندن شقيقتها الأكبر منها معادلات جبرية وهي جالسة إلى مكتبها تحضِّر للامتحان. تبدأ الفتاة باستكشاف المواضع الحميمة والمواضع المكشوفة الموجودة في غرفة النوم، وهي تتسلق الجدران بحركات بهلوانية وتتحرك بتوازن عبر كل زاوية في غرفة النوم الصغيرة المهيأة لشخصين. ينتهي الأمر بها وهي تتأمل الشوارع الخالية من خلال القضبان المثبتة على نافذتها.
تدخل عربة بائع متجول إلى وسط خشبة المسرح. يبرز منها رأس رجل. يجول بنظره بسرعة ثم ينزلق حول العربة من دون أن يلمس الأرض، ويدحرج العجلات قدر استطاعته محاولاً ألا يراه أحد. يتقدم على نحو ثابت عبر خشبة المسرح إلى أن يصطدم بالجدار الإسمنتي، الموجود منذ المشهد الأول. يحاول مراراً إقحام العربة في الجدار عنوة، لكن لا مجال لاختراقه.

شبح الحرب، مشهد سلام ملفت

تخفت الأضواء على خشبة المسرح ويُعرَض فيلم يُظهِر رجلاً يلعب الشطرنج بمواجهة جدار إسمنتي كبير، نصف رقعة الشطرنج مغروز في الجدار. يظهر شخص آخر يلعب الشطرنج أيضاً، وهو يواجه الجهة المقابلة ويحرك بيادق الشطرنج عندما يحين دوره. ثم يظهر مشهد توبوغرافي للخلفية يبدو فيه لاعباً الشطرنج وقد جلس كلٌّ منهما على أحد جانبَيْ الجدار. يقوم أحدهما بنقلة ويرمي البيدق من فوق الجدار. يلتقطه اللاعب الآخر ويضعه على الرقعة.
تندفع خمس نساء بسرعة إلى خشبة المسرح ويشرعن في الرقص بحيوية إلى أن يصلن إلى الجدار الكائن في الزاوية. تبدو النساء هادئات ورشيقات وهن يقمن بالوثوب باتجاه الجدار ومن ثم بالابتعاد عنه، ويبدو أنهن مصممات على القيام بما ينوين القيام به وفي الوقت نفسه ملتزمات بالخطوط التي يشكِّلْنها. تخفت الأضواء ويدخل آخرون بهدوء إلى خشبة المسرح بينما تتصاعد نغمات ناي حزينة. يبدأ شاب وامرأة بأداء رقصة بطيئة بحركات متماثلة مع إبقاء مسافة فاصلة بينهما.
يُعرَض فيلم يُظهِر شابان وامرأة يرقصون داخل غرفة جلوس منعزلة وهم منهمكون في نقاش عائلي. على خشبة المسرح، تبدأ امرأتان شابتان بالحركة على أنغام العود، تتطور حركاتهما ببطء من الركوع إلى الاندفاع بسرعة عبر الأرضية والاستكشاف الدقيق للمكان المحيط بهما، وصولاً إلى تتابعِ حركات الوقوف الخجولة التي تتفلّت أحياناً من القيود الواضحة المفروضة عليهما، لتسمح لهما بالقفز في أنحاء خشبة المسرح. تعود الشابتان في النهاية إلى قيودهما وإلى وضعية الركوع.
تخفت الأضواء ثانية، يُعرض فيلم قصير يُظهِر امرأة في الظلال، ظاهرة ظهوراً جزئياً، تنظر من خلال قضبان. يظهر الآن شاب في أعلى قوس المسرح، معلَّق داخل شرنقة تتدلى من ارتفاع عال فوق خشبة المسرح. تنحل الشرنقة ببطء ويهبط الشاب إلى خشبة المسرح، وهو يتلوى ويتمايل للوصول إلى قطعة قماش أخرى تتدلى من زاوية أخرى من زوايا خشبة المسرح، ليُربَط إليها ثانية.

«شهود عاديون»

ثلاث نساء مستلقيات على خشبة المسرح ملتفات على أنفسهن بوضعية الجنين، يدخل ثلاثة رجال يجرون أعمدة بطول مترين. تمسك النساء بالأعمدة ويدور الرجال بهن حول خشبة المسرح، إلى أن يبقى رجل واحد وامرأة واحدة. العمود الخاص بهما يقف بوضع قائم على خشبة المسرح يمسكه الرجل بينما تقبع المرأة على قمته ملتفة على نفسها. يدور بينهما حوار ثنائي طويل من دون أن يتلامسا، وكل منهما يحاول التحكم بثقل الآخر من خلال العمود.
يُعرَض فيلم يُظهِر المرأة نفسها ترتدي ثوباً بلون أحمر فاقع، تلعب الشطرنج في مواجهة جدار إسمنتي شديد الرطوبة. تمس المرأة الجدار بجسدها برفق ثم بعنف. بينما يقوم شبّان بدحرجة إطارات بسرعة على خشبة المسرح ويبدأون بتكديسها، تطل المرأة والطفلة، اللتان كانتا جالستين في البداية على المقعد الطويل، برأسيهما من خلف متراس. تركضان بسرعة في أرجاء المكان مع أشخاص آخرين إلى أن تمتلئ خشبة المسرح بأناس ينتقلون من جانب إلى آخر على خشبة المسرح وهم في حالة ترقُّب. تعلو تدريجاً ضربات متواترة بإيقاع معيَّن على الأرضية، ويسير الممثلون مسرعين حسب الإيقاع، بطريقة استفزازية ومتحدية، بين الجدار الكائن في الزاوية وجمهور النظّارة. تنتهي المسرحية عندما يشكِّل الراقصون هرماً بشرياً في الزاوية، تتسلق الفتاة الشابة الهرم وهي تمسك بأعلى الجدار بكلتي يديها وترسم بأصابعها إشارة السلام بشكل الرقم سبعة الهندي (٧). ثم تثني أصابعها مرتين لترسم «مزدوجتي الاقتباس».


تقدم مسرحيةُ «ممنوع المرور»، ومدتها ساعة، بما هي مشاهد متباينة من لحظات العيش في ظل الاحتلال؛ شخصياتٍ وأفكار حركية متكررة وسيناريوهات ذات نهايات مفتوحة على كل الاحتمالات. وهي إذ تنتقل من دون توقف بين سياقات محلية مألوفة، تحجم عن تقديم أي سرديات مؤلَّفة من أحداث عرضية ذات خواتيم حُلَّت فيها كل العقد. يظل هناك إحساس بأن المَشاهد المقدَّمة هي قصص لم تُرْو بالكامل. يكتب نيكولاس رو: «أواصل النظر إلى الجندي. يتلفّظ بكلمات غير مفهومة ثم يستدير ويبتعد. أستطيع أن أرى الآن أنه يكاد يكون مجرد صبي، مقيم داخل الدرع الأخضر الضخم الذي يحمي جسده. أتجرأ وأطلب استعادة جواز سفري.
التعذيب والإرهاب واللاجئون وقلق القتال والهوية القومية المرتبطة بالتدريبات العسكرية

وفي هذا الطلب إعلان متغطرس عن تميّزي، إعلان بأنني أجنبي وأحمل «جواز سفر»، ولست من السكان المحليين الذين يحملون بطاقة «هوية» أو بطاقة التعريف الشخصية. ففي جوار وادي عين مصباح المظلم، الذي يخضع لمنع التجول، يعبِّر المصطلح «جواز سفر» عن الاتفاقيات الدولية وعن حقوق الإنسان التي لم يفلح انقضاءُ عشرات السنين على الهيمنة العسكرية في تسويغ تجاهلها. وأنا إذ أعلن عن وضعي كأجنبي في المنطقة، فإني في الوقت نفسه إنما أعلن تميّزي عن ماهر وعن بطاقة التعريف الشخصية التي يحملها. لم يكن هذا ما أقصده، لكني أدرك هذه الحقيقة في اللحظة التي أتفوه فيها بتلك الكلمات وأشعر بالخجل. عندما يعود الجندي من سيارة الجيب وهو يحمل جواز سفري، أسأله عن بطاقة التعريف الشخصية الخاصة بماهر. يتوجّه، ومن دون أن ينطق بكلمة، إلى سيارة الجيب ومن ثم يعود وهو يحمل بطاقة ماهر، ومعها بطاقات الآخرين. بودّه لو يجعلنا ندرك أننا لا نشكل مادة التسلية الأبهج في هذه الليلة.استدار ماهر الآن وهو ينظر معي عبر الوادي. يوزع الجندي بطاقات التعريف على أصحابها، يقرأ الأسماء من البطاقات بدل النظر إلى الصور المثبتة عليها، وكأن ثلاثتهم المتجمعين هناك، هم مجرد حشد من الناس لا يمكن التمييز بينهم. يطلب منا العودة إلى الداخل، ثم يركب سيارة الجيب مع الجنود الآخرين وينطلقون بها».