يقدم عمر راجح عرضه الجديد «وتدور» (كوريغرافياً وإخراجاً) على خشبة «مسرح المدينة». ميا حبيس وبسام أبو دياب يرقصان على موسيقى شريف صحناوي الحية فوق منصة مستديرة (ناصر السومي) لا تدور، لكنها تتحول من الوضعية الأفقية إلى العمودية، فيما تعرض على المنصة رسوم مازن كرباج الحيّة أيضاً. عرض يدور حول فكرة المستحيل، و«الأوضاع غير المعقولة، التي لا تصدق، والتي نصادفها في حياتنا اليومية. كل شيء يتحرك، يتغير، ويتحول من حولنا» كما يقول راجح في نصه «أداء يلعب حول فكرة المستحيل».
فكرة العرض آنية تحاكي الحاضر في تحولاته الكبيرة التي نشهدها منذ اندلاع الثورات في العالم العربي، وتطال مقاومة العيش في ظروف مستحيلة من الحروب والانفجارات. عرض يحاكينا، ويحاكي واقعنا بامتياز. من هنا أيضاً، نجد التعاون الذكي مع الفنان الفلسطيني ناصر السومي الذي اقترح منصة مستديرة تتحرك من الوضعية الأفقية إلى العمودية، ومن السطح إلى الهاوية، من الطبيعي إلى المستحيل. سينوغرافيا ليست مبهرة في حجمها وحركتها فقط، بل الأهم أنّها موظفة في خدمة فكرة العمل عبر تأمين الإسقاطات الفكرية والمفاهيمية على قصة العرض الدرامية. التعاون مع ناصر السومي بحد ذاته قيمة مضافة إلى العرض. يعتبر السومي من أوائل وأهم الفنانين العرب الذين عملوا في النحت والتجهيز، ولطالما كانت علاقة الفرد بالفضاء المحيط به أحد أبرز هواجسه. ثم أتى التعاون مع شريف صحناوي ومازن كرباج. المتابع لمهرجان «ارتجال» أو «بيروت، صوت وصورة» وأعمال الفنانين وعروضهما، ألِف مقاربتهما المميزة للصوت والصورة.
في «وتدور»، قدّم صحناوي عرضاً موسيقيّاً قيماً جداً تميّز بتطور تقنياته وتأليفه الموسيقي الذي اعتمد على جمل ثابتة تخللها بعض الارتجال وأتت متناغمة مع عناصر العرض الأخرى. أما مازن كرباج، فرسم أشكالاً مجردة بواسطة الحبر الصيني التي كانت تُنقل حيّة لتعرض على المنصة المستديرة. ورغم أننا عرفنا أعمالاً لكرباج أهم وأبلغ وأجمل مما قدّمه، إلا أنّ بعض الغموض والتجريد لا يضرّ بتركيبة عرض يحاكي «المستحيل». إضافة إلى التعاون مع مصمم الإضاءة البريطاني جوناثن سامويلز، كانت تلك العناصر موفقة وناجحة. من هنا نؤكد على أهميّة الخيارات الإنتاجية الفنية وراء العرض الذي استطاع أن يجد موضوعاً مناسباً، وتوليف تركيبة مميزة من الفنانين وتوظيف طاقاتهم في خدمة الفكرة الأساسية. هكذا، كانت المادة الإنتاجية جاهزة لتقديم عرض مميّز لولا إخفاق عنصر الكوريغرافيا.
تثير كوريغرافيا «وتدور» الكثير من الأسئلة. اختار عمر راجح تقديم العرض مع راقصين محترفين: ميا حبيس، وبسام أبو دياب. الراقصان على المنصة المستديرة، يرقصان أحياناً معلقين في الهواء بواسطة ونش كهربائي، أو مباشرة فوق المنصة التي تتحوّل من الوضعية الأفقية إلى العمودية. تتمحور الكوريغرافيا حول تفاعل الراقصين في ما بينهما، ومع المنصة المتحولة، بالإضافة إلى الموسيقى والرسوم.
لكن بدلاً من أن نشهد تصميماً كوريغرافياً يحاكي سياق العرض، وعناصره الخاصة ومعوقاته، وجدنا أنفسنا أمام إعادة تدوير لكوريغرافيا سابقة وجمل حركية وراقصة شاهدناها مراراً في عروض عمر راجح السابقة. تغيّر كل شيء حول الراقصين بشكل جذري، ما عدا الكوريغرافيا. في صولوهاته طوال العرض، كان بسام أبو دياب يعيد التنويع على الصولو الذي قدمه في «ذلك الجزء من الجنة» (٢٠١٣): لا يقوى على الوقوف، جسده يرتجف ويتخبط على الأرض، يلوّن جمله الراقصة ببعض حركات الدبكة. قد تبدو صولوهات ميا حبيس أكثر ابتكاراً، لكنها لم تتوصل إلى خلق لغة جديدة. ويبقى الفارق أنّ حبيس تتمتع بتقنية ونوعية حركة أدق وأجمل من زميلها.
لطالما لجأ راجح في كوريغرافيا الصولوهات إلى خلق معوقات داخل جسد الراقص. نراه يرتجف ويتخبط وتتعطل أجزاء جسده كترجمة للمعوقات التي تحيط بحياتنا اليومية وتحولت إلى معوقات داخلية، تسيطر على أجسادنا وحركاتها. لكن، ألا يجسد عرض «وتدور» تلك الاستحالات والمعوقات عبر السينوغرافيا المتحدية للجاذبية والموسيقى التجريبية والرسم التجريدي، فلماذا إعادة توكيد استحالة الرقص (الفعل) عبر التخبط والعجز عن الوقوف؟ ألا يطرح العرض تحدي استحالة العيش ضمن تلك التحولات، فلماذا إذاً يظهر الراقصان كمن يعاني ويجاهد للوقوف والرقص فوق سطح مائل؟
أما المشاهد المبنية على الثنائي الراقص، فقد اعتمدت تقنية الـ Danse Contact، حيث تتوزع الجاذبية بين ثلاث نقاط: جسد الراقصين والأرض. وبما أنّ الأرض في «وتدور» متحرّكة، كان لا بد من تطويع الكوريغرافيا في تواصل مختلف بين أجساد الراقصين والأرض. لكن الأجساد في «وتدور» ظهرت في محاولات دراميّة لالتقاط توازنها والوقوف على الأرض المائلة في حالات الالتصاق كما التباعد، وعلى المستوى الأفقي في معظم الأحيان بدلاً من المستوى العمودي حيث يشكّل تحدي جاذبية الأرض محفزاً لاكتشاف لغة جديدة تتفاعل فيها الأجساد في ما بينها ومع السطوح المائلة/ المستحيلة. لماذا ترفع الأجساد في الفضاء عبر الونش، وخصوصاً أنّ في ذلك تعارضاً مع دراماتورجيا العرض المبنية على تحدي المستحيل، فيأتي الونش كيدٍ إلهيّة تنتشل الأجساد لقسط من الراحة، فتعلّقها في الهواء بعيداً عن الخطر وعن الاستحالة؟
في «وتدور» لحظات قليلة شهدنا فيها اختباراً مختلفاً للحركة كما عندما استلقت ميا حبيس على أرضية المنصة، ورفعت رجليها في الفضاء. جسد حبيس فوق المنصة نصف مائل ومعلق في فضاء المسرح. أما رجلاها الخارجتان عن المنصة، فتتحرّكان ببطء محركتين الفضاء المسرحي حولهما، ومتحديتين جاذبية الأرض عبر خدعة بصرية. تلك هي اللحظات القليلة التي انتصر فيها جسد الراقص على المستحيل.

«وتدور»: 8:30 مساء اليوم _ «مسرح المدينة» (الحمرا ـــ بيروت) _ للاستعلام: 01/341470




... وضاعت اللغة

شهد الرقص المعاصر مع الفرنسي ميشال دوكوفليه، والبلجيكي سيدي العربي الشرقاوي وغيرهما من الكوريغراف العالميين، تقديم كوريغرافيا فوق منصات متحركة تتحدى الجاذبية، أو مع راقصين معلقين في الهواء، وليس ذلك فريداً، لكنهم قدموا لغة تتحدى تفاعل الأجساد مع الجاذبية. وإذا كان «وتدور» يطرح تحدي المستحيل، فالكوريغرافيا وقعت في استحالة الرقص. أما إذا كان الهدف هو إظهار استحالة الرقص، ألم يكن من الأبلغ تصميم كوريغرافيا كلاسيكية فوق السطح الأفقي واختبار استحالتها تدريجاً، بدلاً من تمثيل استحالتها عبر ارتجاف وتخبط مصطنع؟ ذلك التخبط في الرقص هو سبب استحالة تثبيت «وتدور» في نقطة ارتكاز ما، وتوصّله إلى لغة فنية واضحة.