تعرض أحدث أعمال أكرم زعتري (1966) في معرضه الفردي الجديد «النافذة الثالثة» في «غاليري صفير- زملر» (الكرنتينا ــ بيروت). في زمن الرقمنة الذي كان من بين ما انتزعه من الصورة هيكلها الملموس، يتمسّك الفنان اللبناني بجانبهاالمادي، أو وجهها «الشيطاني» كما جاء في النقد الكنسي القديم لها. ما الذي يدفع فناناً للارتكاز على ما قد يعتبر العائق الأساسي لتأويل صورة؟ أو على محدوديّتها التي تسقط عنها الجماليات والعاطفة والمرجع والوجوه والذاكرة، وكل ما انشغل به تاريخ الفوتوغرافيا؟ مع الوقت، تنمو الصور، وترتدي علامات جديدة تتجاوز تواريخها.
«أركيولوجيا» (لوح زجاجي مع دعامات ومصباح إضاءة غامرة ــ 120×160 سنتم ــ 2017)

يزيل زعتري صفتي السكون والجمود عن الأرشيف الذي يبقى شاهداً على ما يجيء بعده. ينقّب تنقيباً أركيولوجياً على سطوح الصور. يستخرج لها سيراً أخرى عبر تفاعل مادّتها مع الزمن. يواصل زعتري مساراً فنياً مفاهيمياً اتخذ من هذه الوثيقة حقلاً لبناء سرديّاته البديلة عن التاريخ الشخصي والعام، أمام التعقيدات الاجتماعية والثقافيّة والسياسية الحديثة في المنطقة، كما في معارض سابقة «أرض تكتنفها الأسرار» (2009) و«اليوم عند العاشرة» (2013). في تأمّله أرشيف «المؤسسة العربيّة للصورة» التي أسّسها مع آخرين في التسعينيّات، يطلّ على تواريخ بلادنا ليسائل تاريخ الصور وماهيّتها وطبيعتها، والممارسات الفوتوغرافية وعملية العرض والجمع والحفظ التي ترافقها خلال الحروب الإسرائيلية، والاحتلالين العثماني والفرنسي، والاغتيالات السياسيّة والتهجير. وإن كانت الفوتوغرافيا هي الوسيط الأساسي في المعرض، إلا أنه ينوّع في استخداماتها وإعادة إنتاجها ضمن سياقات تفتح لها مساحات تأويلية جديدة.
في «النافذة الثالثة»، يبحث عن صورة إحدى ضحايا مجزرة قانا (1996) نهلة هيدوس. يوجد بورتريه واحد لها بالأبيض والأسود. مع ذلك، لا يجزم زعتري بأن الصورة تكمن في وجهها الذي يجرّده نهائيّاً في العمل. التقطت الصورة أوّلاً في الثمانينيات من أجل استخدامها على الهويّة. وحين استشهدت، كبّرها أهلها ووضعوها على القبر، لكن مع تحوّل آخر قضى بإلصاق تاج من الزهور ليغطي شعرها لأنها كانت قدّ تحجّبت خلال تلك السنوات. أُخِذَت لقطة لهذه الصورة كي تعرض في ملحق جريدة «السفير» بإدارة الصحافية ضحى شمس، ثم ركنت إلى مسطّح شفاف حين عرضت ضمن «لقاءات آرل الفوتوغرافيّة».

من مجموعة Un-dividing History (طباعة سينوتايب ــ 16×24 سنتم ــ 2017)

عند مدخل الغاليري، علّق أكرم هذا المسطّح الفارغ الذي لا يظهر سوى إطار وظلّه وتفاصيل تقنيّة وأرقاماً مكتوبة عليه. كذلك غطّى وجه هيدوس داخل كتاب «المؤسّسة العربيّة للصورة» الذي يوثّق لكامل المجموعة، بقياس صغير من هذا المسطّح. يثبّت زعتري الصورة في شكلها الأخير، بعد رحلة من الإجراءات والتحوّلات العائلية والمؤسساتية والصحافيّة. وفي حين تمرّ حادثة استشهادها من دون استفاضة دراميّة في العمل، كأي معلومة أخرى، فإن بياض الصورة وتسطيحها يحيلان إلى هذا الغياب الإنساني جرّاء العدوان الإسرائيلي. أين تكمن الصورة؟ في ما تمثّله وتظهّره؟ أم في الموادّ التي تنقّل عليها وجه هيدوس، والتي حملت كلّ سيرته؟ يبدو طبيعياً أن يطلق على المعرض اسم هذا العمل، لأنه ينطوي بشكل مكثّف على ممارسة زعتري التفكيكيّة لتاريخ الصور والأرشيف.
في مجموعة «ظلّ المصوّر»، يلتقي ماضي التصوير الفوتوغرافي بأحدث ظواهره. يتضمّن العمل 28 صورة يتبدى فيها ظل المصوّر على الأرض. هنا لا يلتزم زعتري بالمشهد العام الذي تقدّمه الصور الأصليّة، إذ يقتطع منها هذا الخطأ التصويري، ويعزله عن المشهد الأساسي، جاعلاً من الظل بطلاً للصورة. تصبح العناصر الأخرى أمامه هامشيّة مثل الأجزاء السفلية لأرجل مجهولين، أو أراض ترابيّة. عبر هذا الظهور الظلي الناتج من محاولة المصوّر إبقاء الشمس خلف ظهره، يقبض على واحدة من الممارسة الأولى للصورة الذاتية أو السلفي. في غرف أخرى، تصل المقاربة المادية لزعتري إلى حدّ التخلّي نهائيّاً على الجانب المرئي للصورة، تحديداً في مجموعة «ضد الفوتوغرافيا» التي حملت عنوان معرضه في «متحف برشلونة للفن المعاصر» العام الماضي. هنا، تقصّى الآثار والحفريّات الماديّة التي خلّفها الزمن عليها، مستخدماً مسحاً ثلاثي الأبعاد للصورة السالبة الجيلاتينية، ثم وضعها تحت ماسح ضوئي يلتقط تضاريسها فحسب. يقترح زعتري في «مطبوعاته النقشيّة»، زاوية أو منظوراً آخر لرؤية الصورة وهي الخطوط المحفورة بألوان عدّة وفق تقنيّات خاصة بعلم الآثار. في الغرفة نفسها، يجد زعتري في ثغرات حفظ الصور، وسيلة لتمرير تعليقاته السياسيّة على التاريخ كما في مجموعة Un-dividing History. يستعين العمل بصور للفلسطيني خليل رعد، وأخرى للصهيوني يعقوب بن دوف الذي قدم أهله من أوكرانيا إلى فلسطين عام 1907.

من مجموعة Faces to Faces (طباعة بالحبر النفّاث على قماش عاكس للأشعة فوق البنفسجية ــ 100×150×10 سنتم ــ 2017)

هناك صدفتان جمعتا صور رعد وبن دوف، الأولى هي قبّة الصخرة التي تظهر كخلفيّة في المجموعتين، والثانية حيازتهما من قبل جامع الأعمال الفنية نفسه الفرنسي إيمانويل كليدمان. على رغم ذلك، تختلف مضامين الصور ووجوه المقيمين فيها. رعد الذي امتلك استديو في فلسطين خلال تلك الفترة، كان يلتقط بورتريهات سياحية للناس أمام القبّة. أما صور بن دوف لمهاجرين أوروبيين إلى فلسطين، فقد استخدمت للدعاية الصهيونية لاحقاً. تواريخ النكبة والسنوات التي مهّدت للاحتلال الإسرائيلي هي محرّك العمل. أدّت طريقة حفظ مجموعتي الصّفائح الزجاجيّة لدى كليدمان لمدة خمسين عاماً إلى التصاق نيغاتيفهما ببعضهما. في الغاليري، نرى هذه المشاهد المزدوجة، والمشوّشة وقد اختلطت فيها المشاهد والكائنات. كأن الاستلاب المكاني الإسرائيلي لفلسطين هو استلاب مشهد لمشهد آخر، حيث صورة بن دوف تسرق مشهد خليل رعد، فيما يبدو هذا التداخل إنصافاً من الوقت يحيلنا إلى تاريخ المكان الأوّل. عثر زعتري على الكثير من حالات الصور المستعصية: اختفاء وجوه، وعطب الصور السالبة، وتجعّدها، وانتفاخها. أضرار تأتي كعلامات جديدة لتواريخها السياسية القاسية. هكذا هي مجموعة «جسم الفيلم» التي تحوي لقطات للمصوّر الأرمني الفلسطيني أنترانيك باكردجيان مطبوعة على قماش، تتبدّى فيها وجوه وأطياف وعمليات تحصين دير القديس يعقوب للأرمن الذي لجأت إليها العائلات المهجّرة بعد النكبة عام 1948. يشير تلف الصور السالبة وغبشها إلى عمل المصوّر الاضطراري خارج غرفته المظلمة بعدما وجد نفسه لاجئاً آخر. في الغرفة نفسها من الغاليري، عرضت مجموعة من الأعمال تركّز على مادّة الفيلم وطرق حفظها، وتأثرها بالعوامل الخارجية كالمناخ الذي كان سبباً في التصاق صفائح زجاجية تظهّر جنوداً فرنسيين ببدلاتهم العسكريّة مع وجوه سكان مدينة طرابلس في عمل Faces to Faces، استعان فيها زعتري بصور أنترانيك أنوشيان في الأربعينيات.

من مجموعة «ظلّ المصوّر» (طباعة بالحبر النفّث على ورق تصوير Hahnemuhle ــ 100×150 سنتم ــ 2017)

في «أركيولوجيا»، يكبّر زعتري لوحاً زجاجياً عليه صورة لأنوشيان أيضاً كان قد عثر عليها جامع الصور محسن يمين في استديو فاضت فيه المياه، في طرابلس. على سطحها، أضفت آثار المياه انطباعاً سوريالياً. هكذا يختفي الرأس من بورتريه لشابّ رياضي يضع كرة تحت قدمه في عمل تمنحه الإضاءة طبيعة مائية جماليّة، فيما تساعد على رؤية الطبقة التي خلّفتها المياه ككتل مادّيّة وعلامات أثريّة لها. أمام صلابة الموادّ، لا يختفي الحس الشاعري في التعامل مع الصور والأثر الذي تتركه بعد اختفائها كما في «آثار عراقيّة». هنا نشهد حالات ظهور غريبة لصور المعمار العراقي رفعت الجادرجي على مجلّدات أقامت فيها لأربع سنوات، قبل أن يمنحها الجادرجي لمعهد آخر، بسبب فشل المؤسسة العربية للصورة في تأمين الدعم الكافي لرقمنتها.
إلى جانب هذه الأعمال، نشاهد في المعرض تجهيزي فيديو يتقاطعان مع الطبيعة المتحرّكة للصورة كما يقترحها زعتري. في «حول الفوتوغرافيا والناس والعصور الحديثة» (38 د ــ 2010)، تقسم الشاشة إلى نصفين يحاكيان حياتي الصور.
يسائل تاريخ الصور وطبيعتها، وممارسات العرض والجمع والحفظ التي ترافقها خلال الحروب

في الشاشة الأولى كاميرا فيديو، وتلفاز يظهر أشخاصاً ومصوّرين وجامعي صور وأفراداً لديهم تجارب حميمية مع الصورة، أما الشاشة الثانية فتمثّل الحياة الثانية للصور بعدما منحت إلى المؤسسة. تعطي الأحاديث تصوّراً عن علاقة الناس بها أكانوا من المتفرجين أم المصورين أم الجامعين، ضمن ظروف اجتماعية وثقافية ودينية حكمت علاقتهم بها في لبنان وفلسطين ومصر... يتابع زعتري بحثه في الصور خلال المنعطفات الزمانية والمكانيّة في «حول الفوتوغرافيا والسلب وفترات النضال» (37 د ــ 2017). مثل شريطه السابق، يبني المخرج عالمين متوازيين، لكنهما يبدوان في هذا الفيديو أشدّ تعقيداً. بصرياً، تتنوّع أدوات عرض الصور والفيديوات، إذ نراها على ألبومات وأجهزة وهواتف ذكية وأفلام سوبر 8. صور عائليّة تنقّلت بين البلدان، وأخرى شاهدة على حياة ما قبل الاحتلال، وصور جنود وقيادات ومناضلين. ترافقها سير محكية ومسجّلة بصوت أصحابها. تكتسب الصور هنا سيرتين لا عبر ما تظهّره، بل بسبب صدفة وجودها المادي خلال الأحداث والتهجير والحروب، ونجاتها منها.

* «النافذة الثالثة» لأكرم زعتري: حتى 5 كانون الثاني (يناير) 2019 ـ «غاليري صفير ـ زملر» (الكرنتينا ــ بيروت): 01/566550