فُجع المشهد الثقافي العربي أمس بغياب إسماعيل فهد إسماعيل (1940 - 2018) رائد الرواية العربية في الكويت، وإحدى العلامات الاستثنائية في الكتابة السردية العربية التي اشتبكت باكراً مع أسئلة الحداثة والتجريب، عدا اشتغاله على خرائط الهوية في تشظياتها وأطيافها وندوبها الفكرية كمرآة عاكسة لهوياته المتعدّدة، هو المولود في البصرة لأم عراقية وأب كويتي، فيما سيقضي شطراً من حياته في الفيليبين. هذا الترحال أضفى قيمة معرفية عميقة على نصوصه، سواء في كتاباته القصصية أو الروائية. فقد كان من أوائل الروائيين العرب الذين وثّقوا الشرارة الأولى للحرب الأهلية في لبنان في روايته «الشيّاح» من واقع تجربة الحصار التي عاشها عن كثب. نزعته اليسارية وتشبعه بالفكر القومي العربي أضفيا نكهة خاصة على سردياته، فقد كانت صدمة هزيمة حزيران طعنة في روحه لن تندمل، لتلحقها طعنات أخرى، آخرها احتلال العراق للكويت، ما جعله يستعير كرسي المؤرخ في توثيق وقائع أزمنة دموية مثخنة بالفجيعة يقول: «إعادة كتابة التاريخ، أصبحت من صلب انشغالات النص الروائي المعاصر، اذ اضطر الروائي الى أن يتقمص شخصية المؤرخ، بحثاً عن صدقيّة لنصه، سواء في اعتماده الوثيقة التاريخية، او في محاولته نبش الموروث وإعادة صياغته من وجهة نظر أخرى». هكذا كتب ثلاثية «النيل الطعم والرائحة»، ولاحقاً سباعية «إحداثيات زمن العزلة» مؤرخاً لأسئلة موجعة على خلفية «البساطة المخادعة» في تأثيث اللحظة التراجيدية، متكئاً في ثلاثيته على تشريح الجبرتي في مراجعة الهوية المصرية ومحاولات وأدها تاريخياً، وصولاً إلى أسباب الهزيمة. كما سيلتفت إلى الهمجية التي واجهتها الكويت أثناء غزو العراق لها في سباعيته. وسيعود بعد تجوال إلى تأثيث المكان الكويتي، والنشأة الأولى، ومشكلات مجتمعه الصغير، في أعمالٍ كثيرة، آخرها «السبيليات». كما سيرصد مأساة «البدون» في روايته «في حضرة العنقاء والخل الوفي» استكمالاً لعنايته السردية بالشخصية المهمّشة وتغييبها عن الواجهة. يفسر اهتمامه بتمزقات الهوية بقوله: «من جهتي كروائي، أحاول توظيف كل الممكنات السردية ضمن النص، والتماس المباشر مع احداثيات الواقع بشكل صارم، على أن لا يكون السرد على حساب المخيّلة ومتعة الحكي. ولعل أكثر ما يقلقني كروائي، هو تفتت الهوية العربية وتآكلها من الداخل، ومن الصعب أن نتجاهل حجم الألم الذي ينهش هذه الهوية الممزقة». هذا الثراء في مخزونه الكتابي، أتى على مراحل. عدا اهتمامه بالتراث السردي العربي القديم، اطلع على تجارب عربية وعالمية مؤثرة، كأنه في عزلته في فضاء جغرافي ضيّق، وجد في هذه التجارب عزاءً تخييلياً. هكذا تعرّف إلى أعمال نجيب محفوظ وفولكنر وكافكا وساراماغو، وماركيز، ليرسم سجّادته السردية الخاصة في مغامرة بلا حدود. في المحصلة «لا يمكن ان ترى الأشياء دائماً من وجهة نظر وردية، ولا مفر من طهو الوقائع بنكهة كافكاوية احياناً، إذ اننا نعيش في عالم لا يصمد أمام المتغيرات». لعل امتياز صاحب «المستنقعات الضوئية» يتمثّل في تدوين تاريخ مضاد، لا يخضع لموروث البعثات التبشيرية وتركة مدارس الاستشراق، إنما ينبش في طبقات التربة المحليّة، ليصوغ آثام ومواجع اللحظة التاريخية الشائكة متكئاً على مكونات الرواية النهرية في رصد الشخصيات والمصائر والأحلام. وهذا ما نبّه نقاداً كثيرين مثل جابر عصفور، وفيصل درّاج، وصلاح فضل، ونبيل سليمان، ويمنى العيد، لمقاربة أعماله الروائية بوصفها مغامرة تخييلية بمذاقٍ خاص، لا تخضع للقواعد بقدر اهتمامها بابتكار تقنيات وأشكال جديدة، أو كما يقول سعدي يوسف عنه «انتفاء للغة وعود حميم لمنبعها، ما نلمسه ليس لغة، إنه الشيء والحركة». غزارة أعماله (30 رواية)، لم تلجم مقترحه التخييلي في ارتياد مجاهل مختلفة، من عملٍ إلى آخر، فهذا الروائي الرائد عاش حياته في الكتابة، نظراً إلى غنى تجاربه، بالإضافة إلى استقراره المعيشي، بعد مكابدات عصفت بحياته، وقادته إلى الاعتقال في العراق أكثر من مرّة، ليواجه أسئلة من نوعٍ آخر، بعد استقراره في الكويت. لكن الأب الروحي للرواية الكويتية، سيُخضع نصوصه لعمليات تجريف دائمة، معولاً على الكثافة في تحرير العبارة من ثقل ما يحيط بها من حواشٍ وفائض الحكي «لم تكن الكتابة يوماً، بالنسبة إليّ، وسيلة معيشية، بل هي نوع من الحنين اللذيذ والمتعة في اختبار تجارب حياتية ومعرفية على الورق. وهذا ما أتاح لي فرصة التعبير عن قضايا وأحداث وشخصيات وأماكن وبيئات مختلفة».
نصف قرن من الكتابة بوصفها طريقة عيش، وبستان متعة في المقام الأول. رغم عزلته الاختيارية، إلا أنه كُلل بأكثر من جائزة تقديرية، بينها «جائزة سلطان العويس» (2015)، كما أنه لم يتوقّف عن الكتابة يوماً، إذ صدرت له هذا العام رواية «على عهدة حنظلة» استعاد خلالها سيرة رسام الكاريكاتور والمناضل الفلسطيني ناجي العلي، وحادثة اغتياله بما يشبه مرثية طويلة.