باريس | لم يصدق أحد أن تكون حفلته في مدينة مرسيليا الفرنسية في الأول من الشهر الحالي، هي الأخيرة له. وقف على الخشبة كعادته متمايلاً بغيتاره الكهربائي وقبعته الكبيرة، وأدى بصوته المبحوح بالتعب والشجن، عرضاً شرقياً حالماً مع فرقته الجديدة «عصبة الكسكس» Couscous-clan التي أسسها مع الفنان الفرنسي رودولف بورجي. مزج أغنياته القديمة والجديدة بالدارجة الجزائرية والفرنسية على وقع أنغام موسيقى الراي والروك، كما استحضر أغنيات تراثية من بلاده الأصلية، كأنه يريد أن يودعها من منفاه. غادر صاحب «يا الرايح وين مسافر» بعد ذلك بأيام بهدوء غارقاً في نومه، مخلفاً وراءه مساراً فنياً وسياسياً دام ثلاثين عاماً.يعد صاحب رائعة «برا برا» أشهر النجوم الفرنسيين من أصول مهاجرة. لم يكتف فقط بمزج الموسيقى الجزائرية مع الروك الأنغلوساكسون وفرض فن الراي في المشهد الفرنسي، بل كان صوتاً قوياً في الدفاع عن حقوق المهاجرين ومناهضة التمييز ضدهم في سنوات الثمانينيات منذ تأسيسه فرقة Carte de séjour (بطاقة إقامة) وبروزه كواحد من قادة ما يسمى بالمسيرة التي غيّرت خريطة المجتمع الفرنسي، وانتصرت لمواطنة الفرنسيين من أصول مغاربية وعربية وأفريقية. جاءت إعادته لأغنية الفنان الفرنسي شارل ترينيه «دوس فرانس» (فرنسا العذبة) بلمسته الساخرة، إذ وجه في كلماتها رسالة إلى البرلمان الفرنسي عام 1986، وشكل ذلك بداية لمسيرته في الأغنية الملتزمة، ليشق بعدها درب الغناء بمفرده، فبرز عام 1991 بألبوم «بارباس» نسبة لأشهر حي شعبي وسط باريس.
حفرت طفولته عميقاً في نفسه بعد مغادرته طفلاً مع أسرته مسقط رأسه مدينة سيق (45 كلم شرقي وهران) والاستقرار في منطقة ألزاس الباردة، ما جعله يستعيد ذلك الحنين عبر أغنيات الراي المشهورة في الغرب الجزائري. كما أحدث استشهاد عمه في الثورة الجزائرية قطيعة مع التاريخ الاستعماري، وأكد في الكثير من تصاريحه الإعلامية رفضه لأخذ الجنسية الفرنسية، تنديداً بما ارتكبته فرنسا في الجزائر. لكنه أعلن سعيه للحصول عليها عام 2007، واضعاً حداً لتمزقه الهوياتي. كما عرف ببساطته وتواضعه الشديدين رغم نجوميته وقربه من البسطاء ومشاركته في العديد من المهرجانات المغاربية بلا مقابل.
رفض مراراً الجنسية، تنديداً بتاريخ فرنسا الاستعماري


منذ بزوغ نجم أغنية الراي في التسعينيات مع شهرة الشاب خالد الهارب من العشرية السوداء، انضم رشيد طه إلى الموجة الجديدة التي طغت على المشهد الموسيقي الفرنسي. أعاد توزيع أغنية «يا رايح وين مسافر» للمطرب الشعبي دحمان الحراشي سنة 1998، لتصبح أشهر من علم في غضون ساعات، ويبيع من ألبومه «ديوان» ملايين النسخ. كان العمل بمثابة تكريم له لأعلام موسيقى الشعبي في المنطقة المغاربية مثل الحاج العنقى وفرقة «ناس الغيوان» وغيرهما. ثم خرج مع الثلاثي الشاب خالد والشاب فضيل (Faudel) من حدود فرنسا وأوروبا نحو دول بعيدة أخرى. وتوالت الألبومات التي تعاون فيها مع موسيقيين عالميين، وكان ألبوم «زوم» تكريماً للأغنية العربية بتوظيفه مقاطع من إحدى أغنيات أم كلثوم عام 2013.
ومن غرائب الصدف أن الموت لم يمهله فرصة لتكريم الفنان الشعبي الجزائري دحمان الحراشي، إذ كان في خضم تحضيراته لإقامة حفلة تستحضر روائع أستاذه الأول في «معهد العالم العربي» في باريس.