القاهرة | لم يدفن سمير أمين في مصر. اختار أن يكون قبره في فرنسا، كما كانت لغته، وكما كانت إقامته منذ الستينيات بعدما غادر هروباً من مطاردة نظام عبد الناصر للشيوعيين وقتها. كانت الستينيات موسماً للهجرة إلى باريس. في التوقيت نفسه تقريباً، غادر أنور عبد الملك، ومصطفى صفوان متخفيين.يملك كل واحد من الثلاثة قصة مثيرة للهروب من مناخ ضاغط للحريات، والأفكار، وأيضاً قصة مثيرة أضافت الكثير إلى الأفكار الإنسانية. أسهم عبد الملك في نقد الاستشراق، وكانت أفكاره الرصاصة الأولى التي انطلق بعدها إدوارد سعيد مفككاً تلك الأفكار الاستعمارية. وتتلمذ صفوان على يد جاك لاكان وأصبح من أشهر علماء النفس في العالم. أما سمير أمين، فكان واحداً ممن أسهموا في تأسيس نظرية «التبعية». نظرية في التنمية تميّز بين الرأسماليات المركزية والطرفية، وترى في بقاء الأخيرة على تخلفها سبباً في استمرار ازدهار رأسمالية المركز الغربي. كان أمين لا يتوقف كثيراً أمام الماضي، بل لم تكن تعنيه لحظة الحاضر، بقدر ما يعنيه المستقبل، الذي كان يكتب من أجله، ينشغل به. لكن الماضي ضرورة من وجهة نظره لحراسة المستقبل. ومن هنا كتب سيرته الذاتية كمحاولة لفهم ما جرى، ومن أجل ما سيأتي.
ولد قبل موعده، في إحدى قرى مصر، مريضاً هزيلاً، ولم يستطع الرضاعة، أو تناول أيّ طعام عن طريق الفم. حتى الماء كان يتقيأه. ظل على قيد الحياة بفضل المحاليل، وفشل أبواه الطبيبان في إنقاذ حياته، بل إن أصدقاء العائلة اقترحوا على الأبوين ترك الصغير يحتضر... ولو لم تمارس الأم «كل أنواع الرعاية الطبية ممزوجة بحبّ الأم لما بقيتُ على قيد الحياة». عندما بلغ عامه الأول، كانت الأسرة في إحدى القرى في دلتا مصر عندما صادفت فلاحة سألتها عن حالة الطفل. شرحت الأم وضع طفلها الصحي بدقة. وهنا، اقترحت الفلاحة أن تدعو الأسرة الصغيرة إلى منزلها الفقير لعلاج الصغير. وافقت الأم بحثاً عن وسيلة للشفاء.
جاءت الفلاحة ببعض الأعشاب. وبعد أيام، شفي الطفل، لكن كي يشفى تماماً، طلب الأطباء ألا يتناول أنواعاً محددة من الطعام حتى سن البلوغ، مثل الحلوى والشوكولا والقشدة. منذ طفولته، درّب نفسه على ضبط النفس: «كان أصدقاء العائلة يندهشون من إرادتي القوية عندما يلاحظون رفضي تناول أي قطعة حلوى عندما أكون برفقة أطفال آخرين». وهكذا أيضاً صار شيوعياً. في سن السادسة، رأى في بور سعيد طفلاً صغيراً يبحث عن الطعام في القمامة. سأل والدته عن السبب، فكانت إجابتها «لأنّ المجتمع سيّئ يفرض ذلك على الفقراء». وبحماسة طفل أجابها: «سأغيّر هذا المجتمع». ضحكت الأم وقتها. بعد أربعين عاماً، حكى سمير أمين هذه القصة لأحد أصدقائه الذي كان يسأل الأم متى صار سمير شيوعياً، فأجابته: «كما ترى منذ سن السادسة!».
الحادثان كان لهما تأثير كبير في خيارات صاحب «أزمة المجتمع العربي». خيارات يعلنها دوماً: «أنا ماركسي شيوعي أممي»، رغم أن بعض منتقديه يرون أنّه مرّغ الماركسية في الوحل حين أعلن أنّها تنطلق من ماركس، لكنّها لا تقف عنده. يقول: «طالما أنّ الرأسمالية موجودة، أعتقد أنّ نقد الرأسمالية لا بد من أن يكون موجوداً. وبما أنّ الماركسية هي الوسيلة الفاعلة لنقد الرأسمالية، فلا بد من أن تكون موجودة».
يدين أمين بتكوينه الأساسي لأسرته، ونقاشاته مع جدّه المصري الذي كان مهندساً في سكة الحديد، ولم يصل إلى منصب مرموق بسبب معارضته الحادة للاحتلال الإنكليزي في مصر: «كان يفرض على الإنكليز ألا يتحدثوا معه إلا بالعربية، رغم إجادته الإنكليزية. وكان والدي يكره الملكية ويتمسّك بالقيم العلمانية. وعندما قامت ثورة يوليو وأيدها الشيوعيون المصريون وكان من بينهم والدي، قال له جدّي: «أنتم تسيرون في الطريق الخطأ. هؤلاء العسكر محدودو النظرة، فاشيون مسلمون متعصّبون لا أكثر». ربما لهذا رأى أمين أنّ انقلاب عبد الناصر قطع الطريق على القوى التقدمية «حاملة مشروع المستقبل في البلاد» على حد تعبيره.
في عام 1957، عاد سمير أمين من فرنسا حاملاً دكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة «السوربون»، وانخرط في العمل في المؤسسة الاقتصادية «الحكومية التي كانت جزءاً من إدارة عملية التمصير والتأميم الاقتصادي في مصر». ثم غادر مصر عام 1960 إلى باريس بسبب أزمة «الحركة الشيوعية» مع عبد الناصر. بدأت رحلته العالمية من فرنسا إلى مالي ثم السنغال ثم جولاته في أفريقيا والعالم في رحلة فكرية ونضالية غنية بالخبرات. في تلك الفترة، كتب «مصر الناصرية» ونشره باسمه الحركي حسن رياض. هنا، رأى أنّ غياب الديموقراطية كان عيباً رئيساً في نظام عبد الناصر: «أمّم السياسة وألغى الأحزاب، ما أوجد فراغاً ملأته جماعات الإسلام السياسي».
نظر إلى تاريخ مصر الحديث باعتباره تاريخ مد ثوري طويل ثم جزر طويل أيضاً


ورغم هذه الرؤية، إلا أنه كان ينظر إلى تاريخ مصر الحديث، ومن ثم المنطقة العربية باعتباره تاريخ مد ثوري طويل، ثم جذر طويل أيضاً. المد الأول بدأ في القرن التاسع عشر مع محمد علي واستمر حتى الخديوي اسماعيل. ثم حدث جزر استمر حتى 1919. غرقنا في هذه الفترة بالديون، والاحتلال الانكليزي، ثم حدث مدّ مع ثورة 19 استمر حتى هزيمة 67، معتبراً أن المرحلة الناصرية هي محصلة لفترة وليست انطلاقة لمرحلة جديدة، كما حاول عبد الناصر أن يعطي لنفسه صورة مزيفة كمجدد في الحياة المصرية في حين أنّه في الواقع أنهى الموجة الثورية. أنتج النظام بما كان المجتمع المصري قادراً على إنتاجه من نظام معادٍ للاستعمار كما حقق إصلاحات اجتماعية (لا اشتراكية) بمعنى تحقيق بعض المكاسب والإصلاحات لصالح الطبقات الشعبية، ولكن بشكل فوقي وغير ديمقراطي. فالنظام رفض الديمقراطية والجذرية. أنتج ذلك ما كان يستطيع أن ينتجه في ظرف 10 سنوات لا أكثر، ثم دخل في أزمة بعدما بلغ حدوده وفقد نفسه. وانتهز الاستعمار الأميركي ــ عن طريق الصهاينة ــ هذا الضعف وضربه في 67.
وكان المد الأخير ما جرى في المنطقة العربية عام 2011، وهو ما أسماه «خطوة ثورية»، معتبراً أن «فك الارتباط مع الإمبريالية العالمية هو الطريق الأساسي للتغيير الثوري». لا يرى أمين أن الرأسمالية تمثل «نهاية التاريخ»، بل هي مرحلة انتقالية أو جملة عابرة في التاريخ، تجمعت من خلالها العناصر التي تتيح تصوّر أو احتمال إقامة فعالة لمرحلة أعلى من الحضارة الإنسانية (هي اشتراكية المستقبل). وسوف تنتج إنجازاً أعلى من الديمقراطية والعلمانية. ترك أمين ما يقرب من 35 مؤلفاً، وآلاف الأبحاث، ومئات التلاميذ الموزعين في قارات العالم وخاصة إفريقيا التي تمثل مع بعض بلدان الجنوب ما يسميه «منطقة العواصف». وكان للقارة وضع خاص، إذ أقام سنواته الأخيرة في داكار مديراً لمعهد التخطيط والتنمية، ورئيساً لـ «المنتدى العالمي للبدائل».