«ذات يوم مقبل سوف ننجو، ونعبر النفق الطويل إلى النور. حتى ذلك الحين، سأحتضن حلمي وأركض». كان هذا ما قالته عندما استيقظت، وهي بالكاد ترى جذورها البعيدة، كما أنها قبلت كل الخسارات. تعلم أنها ماتت منذ أمد، لكنها لا تعلم أنّ الخبرات تحتاج إلى كثير من الوقت لإدراكها. تعلم أنّ لحظتها فانية، لكنها تشعر بأنّ اللحظة حاضرة. في اضطراب خطواتها، تخفق أشواق مُحتجزة، وأغانٍ مُرتعشة، أوانها معقودٌ بالخروج من هذا الباب. تريد استعادة إنسانيتها وحواسها الضائعة. ستقفز الجدار الطويل، وتُفتّت المسافات جرياً خلف السحاب. ارتفاع مستوى التستسترون كان عالياً، أشعرها بأنّ روحها حبيسة. كأنها في حالة وحام، شيء مُبهم يتوغل فيها، وتمتلئ به. يتجهّم وجهها، تتذكر وتتألم.
سرح بصرها الذابل في السماء، وراحت تُخاطب النجوم:
«اسمعي، اسمي قبس، سمّاني والدي هذا الاسم، تيمناً بصحيفة أدمن قراءتها. خريجة علم اجتماع، بَلّتْ شهادته وتَخَلْخَلَت، كما تَخَلْخَلَ عمري. لدي غصنان من حبق، هما المرفأ... والمنارة.
أنا عالقةٌ في العفن، تبعثرت في الوحل مُزقاً. بي وجعٌ مُرّ يفري أحشائي، وينتشر لاذعاً تحت لساني. لذا، سأفتعل حادثةً كبيرة لأعبر إلى الشطّ. سأدقّ بها العالم حتى يُفيق، وأهتف للشمس بملء فمي: لا حياة دون كرامة، كما لا عيش دون شمس. في عروقي يجري دمٌ سيّان، لكني، عوضاً عن بكائياته...، أدمنت الأمل».
لسعتْ وجهها الريح المُحمَّلة بالغبار، فأدارت وجهها. تلفَّتت حولها. هُناك صحوٌ يكاد؛ صحوٌ مُلتبس؛ تكاثف كإعصار ثم هبّ بكل عنفوان، موقظاً الحُلم الغافي في صدرها. أمام شاشة الفضائية السيّانية طوت قدميها تحتها، وراحت ترقب باهتمام حركة الحياة في سيّان، وهي تُحُوِّل التاريخ.
هبّت رياح التغيير، حين أتاها الربيعُ الطَلق يختالُ ضاحكاً. الكرامة والخبز ودويُّ الرصاص. كل شيءٍ يقترب من مصيرٍ ما؛ مصير مجهول. السماء مُفخخة غائمة، والزمن فخٌّ يتربص بالجميع.
تواطأت مع اللحظة الفارقة، جمعهما تاريخٌ واحد، وخيارٌ واحد. أسندت رأسها إلى الجدار، وأطلقت العنان لحواسِّها تتأمل المشهد. (حناجر السيانيّين تصدح بهتافات غاضبة. أبو القاسم الشابي يصيح من قبره: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة»، «أنا فهمتكم... فهمتكم جميعاً... الوضع يفرض تغييراً عميقاً وشاملاً». «بااااطل، بااااطل». «الشعب... يريد... إسقاط النظام». «من أنتم؟ من أنتم؟»).
التفتت إلى الحائط المُقابل، الساعة تُشير إلى الرابعة فجراً. تكَّات عقاربها تدقّ في أعصابها كقنبلةٍ موقوتة، شاعرةً بأنّ لحظة الانفجار توشك على الحدوث.
اللحظات تطير، العقربان في سباق معها، وهي في سباق مع الزمن. تكامل الماء في الجرار، ونثرت في دوارقه الصباح. تلمَّست جسدها، كان بارداً كجثة. أفقٌ أبديٌّ موحش يتراءى أمامها. مدٌّ وجزر؛ خوفٌ من اللامرئي، ذهنها يعبث بروزنامة الزمن، يرتدّ سنين إلى الوراء، ثم ينتكس.
«القبس لا يغيب، قبس وأنتِ قبس هذا الفصل، هل تعرفين ما القبس؟ كوَّة الضوء المتسرب رغم الظلام» – قالتها ذات صيف معلمة اللغة العربية مُعلقةً على غيابها، قبل أن تُعير المجهول مفاتيح غنائها، ويعتم المدى. منذ تلك اللحظة وهي قارئة مُطلعة على المستجدات الأدبية والسياسية، وسابقة لسنّها بروح احتفالية بالكون كله.
الموسيقى، وزمنٌ مُفتَّتٌ هو ما يملأ لحظتها. وجه فتحية، صديقة العمر، ينثال من الذاكرة. تلتقط كفَّها اليسرى وتسحبها للرقص على أغنية «تانغو الأمل»... تسيران خطوات التانغو المنزلقة.
بلهفٍ حارّ اتجهت إلى منضدة خلفها، فتحت دُرجاً صغيراً تتوسطه رأسٌ مُدببة، وأخرجت مصحفاً مُغطى بقماشٍ مخملي مذهَّب، مررت عينيها سريعاً. ثبتت نظراتها: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنِ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
انطفأ النور فجأةً، فانتفضت. دارت حول نفسها بضيقٍ ولوم على إهدار الوقت وضياع لحظة الانفجار. شعرت بالاختناق وطفرت دموعها، لكنّ النور عاود الاشتعال مرةً أخرى.
«لكلِّ شيءٍ أوانٌ ينطفئ بعده»، قالت في نفسها وهي تشعر بأنّ اشتعال النور من جديد هو رسالة موجهة إليها، وعليها التقاطها.
انسحبت نظراتها على هيئته. حدَّقت بإمعان.
(قبل أن أعي أنّ كلّ علاقة في الدنيا هي رهان، صار زوجي. يوم الخميس، بعد صلاة الظهر، وقَّعتُ على وهم الحياة الجديدة، ووقَّع على منحني كل مشاعر الامتهان. لم يسبق لي أن رأيت الحقارة، لكني تعرفت عليها تحت مظلته. رجلٌ لا يحوم حول رأسه سوى مُتَعه! ويبذل من الاهتمام لرفقته ما لا يُبقي معه حتى ثمن رغيف لعائلته. تسع سنوات عشتها بقلبٍ تصفر فيه الريـح. مضت بي كما تمضي الحياة بمِعزاة ضمن قطيـعٍ في زريبة، يغلق الأبواب علينا بالأيام، فلا نجد ما نتقوّت به، سوى أن نغمس الخبز اليابس في الماء لسدّ جوعنا).
يتعالى صوت «تانغو الأمل» في ضميرها، وهي تستعيد لحظة أصابت عقلها لوثةٌ حين رأته وأحدهم، يغطّان في النوم، متعانقَين عاريَين. يوم شلَّ خطواتها هذا المشهد، انطلقت مثل صاروخ إلى غرفتها وصرخت بجنون، بكت بحرقة لم تعرفها قبل ذلك اليوم. أصابها نحولٌ كادت معه ألاّ تشبه البشر، عظامها ناتئة، وفي عينيها نظرة هلعٍ طافحة.
خشِيَت أن يُفاجئها الفجر. مسحت دموعها، وصورةٌ تفزّ في وجعها، تئدها قبل استرسالها. الصورة التي وَأَدَتْها كانت العبَّارة التي جعلتها تعود إلى حيث ينام.
غمر ملامحَها توترٌ مُنذر، وباتت تتصرف بعصبية. لا وقت للحَيرة والتردد، بعد قليل سينبلج الصباح، ويستيقظ النائمون.
باتت في قلب المحظور. الزمن حُفرة وخطواتنا المحراث.
استحال اليأس إلى جسارة، وفي اندفاعٍ مجنون اختلست النظر حيث ينام صغيراها. كان النور يشتعل خافتاً في حُجرتهما. سارت القهقرى على أطراف أصابع قدميها، مُرهفةً حواسّها لشخيره الذي يتصاعد.
ارتداها الظلام. صارت النيَّة حضوراً، وباتت الفكرة تجَلِّياً.
يعلو صوت «تانغو الأمل» وإيقاعه في ضميرها. عصيَّةً على التراجع وعصيَّةً على الوعي الكامل، تقدّمت كموجٍ هادر نحو شواطئ مجهولة. التقطت صغيرها الرضيع، وطوت ذات السبعة أعوام تحت ذراعها، فتدلّت رقبتها من ارتباك حركتها. وضعتهما قريباً من باب الخروج وهي تلتفت بجزعٍ عارم إلى حيث ينام.
تناولت غالوناً كان مُوارىً تحت درجات المنزل. ارتفع بصرها إلى النافذة الوحيدة المسدودة بجهاز تكييف مُطفأ. سكبت بتأنٍّ شديد ما فيه من «كيروسين» على الأرض المُسجّى فوق سريرٍ في ركنها الأيمن بعضٌ من بشر وبعضٌ من بهيمة. ألقت نظرة حقد عليه، التقطت كبريتاً يرقد بين نهديها، أشعلت ثقاباً، وألقته على الغاز المسكوب في أرض الغرفة.
لمحت اشتعال النار، وشمَّت رائحة الغاز التي ملأت المكان وتشرَّبت ملابسها. أغلقت الباب عليه من الخارج، ودسّت المفتاح في صدرها. تلفّعت بعباءتها المُعلّقة على مقبض النافذة، والتقطت صغيريها.
فتحت الباب الخارجي.
أغلقته خلفها.
قذفت نفسها في الفراغ، لا تنشد سوى تحرير روحها. تساقط بعضها، وتاه ما تبقى. جرت في ذهول رافعةً أطراف عباءتها. تُصفر الريح في ظهرها وتلتفت إلى الخلف. أصوات نباحٍ تتبعها، أو هكذا توهّمت.
التوى كاحلها. تعثَّرت. تعفّرت عباءتها. سقطت. نهضت. امتلأ فمها مرارةً. تسارعت دقَّات قلبها. سقطت. نهضت. ركضت. شعرت بألمٍ في خاصرتها. خارت قواها. سقطت مرةً أخرى. نهضت. دكَّها جرمها، فزادت سرعتها.
قطعت شوارعَ، جوامعَ، جسوراً، خرائب، قبوراً. انتبهت أحاسيسها الغافية وطنينٌ يتبعها: «الوضع يفرض تغييراً عميقاً وشاملاً، كوة الضوء المتسرب رغم الظلام، بااااطل... بااااطل، سوف ننجو، (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)».
كفّ صوت المقطوعة.
سبحت الوجوه والظلال... تداخلت الصور... وتصاعد لحن التانغو.


* الفصل الأول من رواية «دحرجة الغبار» للكاتبة السعودية سلام عبد العزيز عن «دار الساقي»





نبذة عن الكاتبة والرواية

في مقابلة مع جريدة «الرياض» قبل أيام، كشفت سلام عبد العزيز أنّها تكتب باسم مستعار «رغم أني غير مقتنعة بذلك. لكنّ أقربائي وأصدقائي يعتقدون خلاف ذلك، وأنا لا أريد أن أخسرهم، لأنهم الأناس الحقيقيون في حياتي، ومتأكدة أنّه سيأتي يوم وأضع اسمي الحقيقي. لكنّ كثيرين يعرفون اسمي الحقيقي، من وزارة الإعلام إلى الأصدقاء».
إذاً، اسم مستعار آخر اختارته الصحافية والروائية بعد فورة الأسماء المستعارة التي مهرت بها روايات آتية من المملكة السعودية قبل سنوات، لأنّها تفضح ما يدور خلف الجدران المغلقة، وتحكي عن منظومة بطريركية كاملة تتحكّم في مصائر النساء، بتحالف قوي من رجال الدين. عملت سلام عبد العزيز في مجال الصحافة، قبل أن تتفرّغ للرواية. أصدرت روايتها الأولى «العتمة» عن دار الساقي عام 2013. وكما شرّحت المجتمع السعودي المخنوق بتقاليد صارت خارج العصر والزمان، تواصل ذلك في روايتها الجديدة «دحرجة الغبار» التي طرحتها «دار الساقي» أمس في الأسواق.
لا تعتمد روايتها الجديدة على تطوّر الأحداث، ولا تخشى الكاتبة من ملل القارئ لأنّ «الرواية قصيرة وأحداثها متسارعة، واللغة جاءت صانعة للحدث الروائي، كوصف وكفعل». الاسم المستعار انسحب أيضاً على تجهيل المدينة التي تدور فيها أحداث «دحرجة الغبار». تتمحور الرواية حول قصة فتاة متعلمة ومثقفة، لكنّها زوِّجت لرجل مدمن «يحيا كالبهائم». كانت كلما حاولت مغادرة منزلها، يعيدها والدها إليه قائلاً: «ما عندنا بنات تطلق». وسط انسداد الأفق هذا، تقدم البطلة على قتل زوجها وتهرب مع ولديها.
تراهن سلام عبد العزيز على ما وصفته بـ «الديالوغ السردي» في روايتها، معللةً: «لأن فيها جانباً فلسفياً عميقاً واللغة كانت صانعة للأحداث في الرواية، والحبكة خرجت من الحدث الاجتماعي إلى الهم العام وهو هم وطن». ليس للوطن اسم هنا، فالمدينة التي تحتضن أحداث الرواية سمّتها الكاتبة «سيان»، معلقةً: «لم أحدد المكان، خرجت إلى الهمّ الجمعي وهمّ الوطن، اعتبرت الجميع متحدّرين من مدينة «سيِّان» كي أنجو من مقصّ الرقيب أولاً، وثانياً لأنهم جميعاً، سيان، من الكويت والدمام إلى مصر وليبيا».