كرّمني الصديق فوزي يمين أن اصطفاني للحديث ها هنا عن المعلّم شوقي أبي شقرا الشاعر الذي استقلّ وحده بين معاصريه، فالشكر له وللقائمين على هذا الاحتفاء بشوقي، وهم «اللقاء الثقافي» في زغرتا الزاوية وبلدية زغرتا اهدن بشخص رئيسها سيزار بسيم والبيت الزغرتاوي لراعيه أنطونيو يمين. فأنا ها هنا بين أهلي، وإن أنسى لا أنسى جلسة في هذه الربوع بين خمائل الخزامى عند سيزار بسيم ومأدبة أنيسة في مطعم الجوزات في زمن رغد ولّى مع حلوة وشوقي أبي شقرا محاطاً بفيرا وقبلان ومحسن يمين.لن أتحدث ها هنا عن رعاية المحتفى به شوقي لجيل بأكمله، وكيف أنه أدار الثقافة وحرّكها من محيط إلى خليج، فهو الذي أفسح لنا على صفحة الثقافة في جريدة «النهار» يوم كنّا في المهجر ويوم عدنا إلى الوطن، بالإفصاح عن تعاليم النهضة القومية الاجتماعية التي بشر بها أنطون سعاده.
(مروان طحطح)

شوقي هو الذي أفسح أيضاً للحداثة حين نقّح مسوداتها لثلاثة وثلاثين عاماً، وقبل ذلك بعقد كان للقصيدة رائداً ومترجماً وناقداً. في البدء، في 1956، مع ادمون رزق وجورج غانم وميشيل نعمة في حلقة «الثريّا»، فإلى مجلة «شعر» في 1959 مع يوسف الخال. وهو الذي ترجم رامبو وريفردي وأبولينير وعرّف بهم. وهو في حداثة القصيدة لا شبيه له. يقف وحده في أناقة بيته وحنوته. وفي العبارة هو صنو نفسه.
رأى شوقي أنّ الشكل واجب الوجود قبل المضمون، وأنّ الشكل الذي يصوغه الشاعر هو الذي يحوّل القصيدة إلى جوهرة نادرة تقاوم عاديات الزمن.
لغته قائمة على الصقل وعلى النفاذ إلى الأعماق، إلى سرّ التكوين اللفظي. عبارته هي شاغله الخاص وعودة اللغة بكراً وإعادة صوغ كأنه صوغٌ للمرّة الأولى في كل قصيدة، أي هيئته.
مولده في محلّة نهر بيروت، وإن كان أهله، مجيد فارس أبي شقرا ومنيرة مخايل أبي شقرا، من مزرعة الشّوف، فإلى دير مار يوحنا في رشميّا حيث درس السريانية والاستظهار و«القدوّس القدوّس» والعربية، فـ «الحكمة» في الأشرفية.
لم يأتِ أبي شقرا من خارج التراث، فما من شاعر يأتي من خارج التراث ويصمد في معترك الشعر، لكنه انشقّ عن التراث بعدما استوعبه ونما عليه ونهل منه واغتذى به، ثم ما لبث أن خرج عن سكته وهمدر وحده. هو حكر على نفسه ومتفرّد، منذ البدء، في بنية قصيدته ومتميّز في نكهتها، فكان لونها طبيعة، وكان طعمها فاكهة، وكان مناخها حلماً.
لم يكن رومانسيّاً ولم يكن كلاسيّاً. كان مناخ قصيدته مركّباً من واقع ورؤية، ومن هنا سورياليته، وكانت جذورها الشتلة الآخذة من ماء وشمس وهواء، ومن هنا دادائيته. وما الوقوع في قصيدته على تقنيات الحداثة التي راجت في الشعر العربي، من خليل مطران إلى خليل حاوي، إلا برهان على أن صاحبها هضم تلك التقنيات، ففاحت قصيدته ببخور مدينة ونضحت بنور جبل.
بسرد مختزل ومكثّف في آن، أوجز أبي شقرا مؤخراً سيرته الذاتية الحافلة بالآخر والفكر والثقافة والفن تحت عنوان أساسي هو «شوقي أبي شقرا يتذكّر»، وبذيله عنوان ثانٍ هو «كلمتي راعية واقحوانة في السهول ولا تخجل أن تتعرّى». وهذه المذكرات/ السجلّ/ الوثيقة صادرة عن «دار نلسن» التي يُشرف عليها الصديق الزميل سليمان بختي، وعن مجلّة «الحركة الشعرية» في المكسيك وهي التي يرأس تحريرها منذ ربع قرن الصديق الزميل قيصر عفيف. في 815 صفحة من القطع الكبير مع صُور على مدى ثلاثين تختصر ثمانينه، له ولرفاقه وعائلته وفكره المتنامي وقصيده السامي، فيما السيرة بحق أوّل تأريخ لحركة الحداثة صادر عن أحد أعلامها ومحرّكيها الديناميين، من حلقة «الثريّا» إلى تجمّع «شعر»، فجريدة «النهار»، وملاحق الثقافة والفن إلى الحرية فالتأمّل والإبداع الشفّاف الرقيق.
ولعلّ ما قاله الصديق الصدوق معالي الوزير الاستاذ ادمون رزق يفي المعلّم شوقي حقّه. ففي حفل تكريم الشاعر في أنطلياس مساء 13 آذار (مارس) 2009، قال رزق: «في زمن التأمّل، يظلّ شوقي من عرفت في عمر الأمل، طفل البراءة، صبيّ الدهشة، فتى الموهبة، ورجل المحبّة. جريء الكلمة، عنيد الموقف، إلى دماثة رهبانية، وإباء، وشهامة، حتى لتقولنّه آتياً من حنايا الأساطير».
نحتفل اليوم بشوقي ها هنا لأنه هو هو، فما صانه وحفظه هو موقفه الثابت والمستقيم من القصيدة، فمنذ ستين عاماً وحتى الساعة هو هو في معياره النقدي، أي إن الحكم للزمان وحده فهو الذي يغربل. وفي النهاية لا يصحّ إلا الصحيح، تماماً ما تقوله لنا حلوة بسيم أبي شقرا عندها متى كان النقاش سياسة، فكما في القصيدة كذا في العقيدة لا يصحّ إلّا الصحيح، أي إنّ الموقف النقدي في النهاية أخلاقي. ومن هنا محبّتنا لشوقي طال عمره، فالاستقامة كنز والصلاح ثبات.

* كلمة تلقى مساء اليوم في احتفال تكريم الشاعر شوقي أبي شقرا في «دير مار سركيس وباخوس» في إهدن ـ للاستعلام: 06/660248