أغنية «ميلي يا حلوة ميلي» (تلحين وتوزيع الموسيقي والملحن الفنان شربل روحانا) هي أغنية شعبية مميزة مبنية على الفولكلور الشعبي الجبلي اللبناني المفتوح على الإيقاعات المحببة لرقصة الدبكة والموقّعة بنبض إيقاع ينبض دائماً على ميزان اثنين على اربعة 2/4 لف شعبي. لكن الغناء يدخل عليه بعد المقدمة الموسيقية بإيقاع ستة على أربعة ٦/٤ ويستمر حتى ما قبل النهاية، حيث يتغير مع نهاية الأغنية موسيقياً بشكل راقص على ميزان إيقاع ستة على ثمانية ٦/٨. ما يخلق دائماً حالة من الفرح في التنقل والتغيّر، في أجواء من الدبكة على طول مدة الأغنية. ولهذه الأغنية، نسختان: الأولى أصلية بصوت ملحنها وموزعها الفنان شربل روحانا. وكان قد كتبها منذ زمن بعيد نسبياً (تكريماً للموسيقار اللبناني الراحل زكي ناصيف أحد أعضاء عصبة الموسيقيين اللبنانيين الخمسة الكبار)، وبأسلوبه السلس الذي لا تخطئه الأذن ويتميز بأسلوب تفكير وتوزيع يتوازن أكاديمياً بين الكلاسيكي الرصين وبين الشعبي الذي يتوسل الفولكلورية. هذا من دون أن يستسلم لبساطة الفولكلور الرمزية موسيقياً في الماضي، ولا يتنازل عن حِرفية تتماهى وتزدهر بروح التطوير بشكل ممنهج، بما يخدم النسيج الموسيقي الغنائي اللبناني الشرق عربي المنفتح بهويته الإيجابية التي تنهل من محلية أصيلة يعرف روحانا كيف يلوّن ملامحها اللحنية الجديدة. بما يجمع بين شفافية غنائية ورؤية موسيقية متطورة وصادقة في التعامل مع ذلك المنهج الموسيقي العام المذكور أعلاه في نسيج التوزيع الراقي الخاص به ويشار له باللغة الدارجة بمفردة «كلاس».
أغنية شربل روحانا مشغولة بكثير من الحب لشخصية زكي ناصيف

أما النسخة الجديدة للأغنية الصادرة حديثاً، فهي لروحانا أيضاً، لكن مع تغييرات معينة طلبتها الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي. لسبب غريب وغير مبرر فنياً، طلبت الرومي من الشاعر اللبناني جرمانوس جرمانوس أن يكتب لهذا اللحن الجميل، كلاماً شعرياً غير قصيدة زكي ناصيف الدافئة بكل ما فيها من عفوية شعرية شفافة.
ورغم كون كاتب هذه السطور يفضّل النسخة الموسيقية والشعرية الأولى، كونها بعيدة عن روح التكلف أولاً ولانسياب لحنها الشفاف على جماليات القيمة الشعرية الأولى لقصيدة زكي ناصيف ثانياً، فإن تحليل النسخة الثانية للرومي يبيّن أنها لم تتفوق على الأولى، إلا بما أسبغته آلة الاوكارديون من أجواء نغماتها الممتلئة بفرح يتماهى مع احتفالية فولكلورية في أجواء رقص الدبكة أولاً، كما في ما أضافه إليها ثانياً المقطعان الموسيقيان الأول والأخير من دينامية وحركة. يتحقق ذلك عندما يتحول ميزان الإيقاع من اثنين على أربعة ٢/٤ مع دخول إيقاع الميلودي والغناء فوقه على ميزان ستة على أربعة وعلى طول الخط الغنائي. هذا أولاً، ومن ستة على أربعة ٦/٤ يتسارع إلى نبض إيقاع ستة على ثمانية ٦/٨ في الخاتمة الموسيقية للأغنية ثانياً، فزاد في الحالتين من أجواء حماسة الدبكة الراقصة فيها.
كما أنّ الأغنية التي كان قد غناها روحانا أساساً بصوته على مقام النهوند على الـ Re، اضطر في نسخته الثانية لإعادة كتابتها متعمداً تغييرها لتناسب طبقة صوت ماجدة الرومي على مقام النهوند على الـ Si «بيمول»، لتتمكن من تأديتها على مساحة تتصف بالراحة التعبيرية التي تسمح لصوتها أن يتحرك فوقه على انترفالات ذلك السلم الموسيقي برحابة.
الملاحظ أيضاً قدرة وذكاء الفنان شربل روحانا كموسيقي في أسلبة شخصية اللحن وتجييره ليتناسب مع أسلوب وشفافية الروح الموسيقية للفنان الكبير الراحل زكي ناصيف. قد يظن السامع الذي لا يعرف روح وقدرات شربل روحانا الموسيقية العالية بأن ملحن الأغنية هو زكي ناصيف. وهذا حتماً يُسجّل لروحانا لأنه عرف كيف يقارب قصيدة زكي بلحن روحانوي التطلعات من جهة، وناصيفوي الروح ثانياً يتماهى بها ويتوسلها بغنج ساحر، وهو ينهل من مناخات السهل الممتنع الذي تميزت به شفافية الروح الموسيقية لألحان وتراث زكي ناصيف الحافلة بسحر الأهازيج والأفراح والدبكة والفلكلور المشغول بشيفرة موسيقية يندر أن نجد من الفنانين الموسيقين الحاليين من يقدر على محاكاتها بنفس الشغف والاقتدار الموجودين بسخاء لدى الفنان شربل روحانا دون أي نزعة ميكانيكية في النقل.
وقد تقمص روحانا تلك الروح عندما سعى خلال المدة الزمنية القصيرة للأغنية أن يزرع فيها أجواء مقامية تتميز بمناخات تعبيرية لبنانية جبلية راقصة حيناً وتحتفل أحياناً أخرى بوجود جميل فيها للثلاثة أرباع الصوتية التي تعطي النكهة والروح الممتعة التي تحتفل بها المناخات الموسيقية الشرق عربية التي تتقنها الروح الموسيقية الأصيلة والراقية للفنان شربل روحانا. فإذا انتبهنا لوجود النقلة متكررة مرتين عند بداية كل من المقطعين الثاني والثالث وتحديداً عند جملتي «العطر العاشق وردتنا» في المقطع الثاني، كما عند سطره الأول الذي يغني «السهل اللابس حالو» في المقطع الثالث لنسمع عندها، وفي الحالتين، نقلة شرقية رائعة تتكرر مرتين لتحتفل بوضوح بجماليات من مقام البيات!
أغنية شعبية مبنية على الفولكلور الجبلي


كذلك عند نفس المقطعين المذكورين (أي الثاني والثالث) وعند سطر «الصبح الغامر دنيتنا» أولاً ثم عند سطر «شالو بإيدو شالو» ثانياً، ينزل بالمقام ليأخذه من النهوند إلى الحجاز ليعود ويركز بعدها في المرتين على نهوند السي بيمول Si bimol!
باختصار أغنية شربل روحانا الجديدة مشغولة بكثير من الحب لشخصية الراحل الكبير كما بكثير من الحكمة والاحترام اللذين يعرفان كيف يستحضران روحه الموسيقية المفعمة بالرِفْعَة والعُلُوْ اللتين ميّزتا سحر تلك الشخصية الموسيقية الراقية والمحببة التي نفتقدها كثيراً هذه الأيام.
لذلك، لا بد من الاستغراب كذائقة لبنانية لفكرة ماجدة الرومي بطلب استبعادها لقصيدته بقصيدة أخرى ستبقى غريبة جينياً عن علاقتها وقرابتها للأصل الموسيقي الطبيعي الأول للنسخة الغنائية الأولى لروحانا. حتى ولو جاءت النسخة الشعرية الجديدة «هجينة قياساً على الأولى من قامة شعرية مخضرمة كقامة الشاعر جرمانوس جرمانوس. وكأني بالسيدة ماجدة الرومي تترك الأصل المنسجم والمتوحد والمتكامل فنياً (شعر بلحن بتوزيع) بشعر تتعمد أن تستعيره من تلك القامة لتغطي نيّة غير مفهومة! وهي بذلك تخلق حالة من الإحراج لها وللشاعر الذي قد يكون بلا أدنى شك قد شعر بهذا المأزق داخلياً وعمل بكل ما لديه من حنكة شعرية للتخفيف من وطأة ذلك الإحراج! هذا سيبقى بلا تفسير بل مفتوحاً للتعليق عليه من الذائقة أولاً ومن كل محبي الفنان الخالد والمحبوب زكي ناصيف! أعتقد أن فنانة بمنزلة وذوق السيدة ماجدة الرومي لم تكن أبداً بحاجة إلى هذا الأشكال، هي التي عرفت كيف تختار أغنية تعبيرية جميلة ممتلئة بعناصر السهل الممتنع بشفافية ورقي يندر اجتماعهما في هذه الأيام التي لا يزدهر فيها وعلى أرجاء الساحة الفنية إلا الهبوط والإسفاف والتردي!

* يوجه شربل روحانا تحية إلى سيد درويش ضمن «مهرجانات بيبلوس» مساء الجمعة 24 آب (أغسطس)

نسخة شربل روحانا الاصلية


نسخة ماجدة الرومي المعدلة