I ـــ المكان الطبيعي لمدينة بيروت الكبرى: شكله، وحدوده، وصفاته، ومميزاتهتبتعد الرؤية الهندسية لبيروت الكبرى، الممتدة من الدامور إلى ضبيِّة، عما يمليه مكانها الطبيعي. والمدينة الكبرى هذه، كانت في حدودها الإدارية، بلدة صغيرة حول مرفأ طبيعي، لا يتعدى عدد سكانها في عام 1820 العشرة آلاف نسمة.
لقد أجمع الذين صاغوا تنظيم بيروت هذه، على التغنِّي بموقعها الطبيعي، وكلـُّهم فرنسيون من الأخوين دانجيه (Danger) في الثلاثينات إلى ميشال إيكوشار، المعمار والضابط في الجيش الفرنسي، في الأربعينات، إلى المخطِّط والمثقَّف إرنست إغلي في عام 1950، إلى ميشال إيكوشار مجدداً في الستينات. من دون أن ننسى المرور الخاطف لليوناني دوكسيادس في عام 1957.
تـُظهر الصور الجوية، بيروت الكبرى هذه، وهي تقوم فوق متَّسعٍ شبه منبسط مثلَّث الشكل، يكادُ يكوُنُ مُتساويَ الضلعين. رأس المثلث ناتئ في البحر، وقاعدته عند التلال.
ومن المميزات الرئيسة لهذا المكان، وضوح حدوده الطبيعية: البحر في الشمال الشرقي، وفي الغرب، وفي الجنوب الغربي، والجبال في الشرق. إنه واضحٌ، مرئيُّ، مقروءٌ، بهذا التناقض بين المياه واليابسة، بين هدوء الماء، وصخب البُنيان.
تشعرُ وأنت تنظُرُ إلى البحر، بالسكينة، تحضن المدينة من كل صوب، وتدعوها إلى الطمأنينة. كما تشعرُ، بنظامٍ طبيعي لا يتغيَّر على مدار السنة، يحدِّد علاقة البرِّ بالبحر. هدوءٌ عند الضلع الشمالي، وبعضُ التوتُّر عند الغرب وعند الضلع الجنوبي الغربي. إلا أنّ السمة الرئيسة للمكان، هي العلاقة التي ينسُجُها برُّ المدينة مع بحرها. وبرُّ المدينة في شاطئيها الغربي، والشمالي الشرقي، هو صخريّ، متعدِّد الخلجان، كأنها جيوبٌ تختبئ فيها مياه البحر، هرباً من حرِّ الشمس. تكسو التضاريسُ أرض المدينة، في شمالها الشرقي وغربها، فتنحدر الهِضابُ بلطفٍ باتجاه الشمال الشرق. وتـَظهرُ مناطقُ مرتفعةٌ، بارزةٌ، رأس بيروت وبرج أبو حيدر، في غربها. وفي شمالها الشرقي، الأشرفية، والسيوفي، وأعلى الجمَّيزة.
أما برُّ المدينة في شاطئها الجنوبي الغربي، فهو رمليّ، لا تضاريس فيه، يمتدُّ من الرملة البيضاء إلى آخر منطقة خلده.
وإذا كانت مياهُ البحرِ صارمةً في تحديد المكان الطبيعي لبيروت الكبرى، عند رأس المثلث وعند ضلعيه، فإن الجبال والتلال، ليست أقل صرامة في تحديد هذا المكان عند قاعدة المثلث.

II– إملاءاتُ المكان الطبيعي لبيروت الكبرى في رؤيتها الهندسية وفي العمرانِ الـذي يحقِّـق هذه الرؤيـة
يتناقض المكان الطبيعيُّ لبيروت الكبرى مع محيطه. فالبرُّ، هو نقيض البحر. والمنبسط، هو نقيض الجبل. إلا أن التناقضَ لا يعني تنافراً. فالتناغُم لا يصنعه التجانس فقط، وغالباً ما يصنعه التناقض. فبيروت التاريخية، أُكرر، إنما قامت حول مرفأ طبيعيٍّ صغير. وامتدت خارج الأسوار إلى التلال جنوبها، في منطقة زقاق البلاط. تطلَّعت المساكن إلى البحر، وغرقت في الحدائق، وتدرَّجت بانحدار التلال. فبدت البقعةُ كأنها حدائق مسكونة. ثم امتدت بعد ذلك إلى التلال المنتشرة في الضلع الشمالي الشرقي، وفق الشروط ذاتها.
نسجت بيروتُ التاريخيَّة، علاقةً حميمةً مع البحر.
• البحر متعة ٌ للنظر، ومجالٌ للراحة وللتأمل، ومصدرٌ لرزق الصيادين.
• البحر يحمِل الزوَّار والسلع إلى المدينة.
• البحر يلطِّف بالرطوبةِ حرارةَ الصيف، وهو للنزهة، وللسباحة، وللهو...
• البحر هو كلُّ شيءٍ تقريباً. فهو دائم الحضور في حياة الناس. وهو، لذلك، مكوِّنٌ رئيسٌ لهوية المدينة.
● أول ما يفترضه المكانُ الطبيعيُّ لبيروت الكبرى، في الرؤية الهندسية والعمران الذي يحققها، هو الحفاظُ على علاقتها التاريخية مع البحر. غير أن مركز بيروت التجاري تعزَّز مع الاستقلال، فتوسَّع المرفأ، وحذا حذوه المطارُ. ثم بدأت خصْخصةُ الشاطئ باسم تشجيع السياحة. فتضرَّرت الوحدة الطبيعية لشاطئ بيروت الكبرى، وابتدأت المدينة تفقد طابعها الرئيس. إلا أنه رغم الخصخصة في الستينات، والتعديات في عام 1958، وفي الحرب الأهلية، استطاعت أن تحافظ على علاقتها بالبحر، عَبر منطقةٍ امتدت من «السمرلاند» حتى المرفأ، وعَبر شاطئ رملي امتد من الأوزاعي حتى حدود خلده.
بيروت اليوم، بيروت العامودية: تكوينات مدينية بدون معنى

حافظت بيروت المتمدِّدةُ إذاً، على معظم المواقع الطبيعية، التي صنعت علاقتها بالبحر، حتى بدء ورشة الإعمار عام 1992. أخص منها ورشة إعمار قلب المدينة. ففوراتُ البنيان بعد الاستقلال، أدت إلى انتشار عِمارة الطرز الدولي، وإلى تدمير تراث المدينة، التي فقدت بذلك أهمَّ ميزاتها. إلا أنها استطاعت أن تحافظ على قلبها التاريخي، بساحاته وأسواقه التقليدية، وعلى الجزء الرئيس من واجهتها البحرية.
إعادة إعمار قلب بيروت، قامت به شركةٌ عقاريَّة تملَّكته، فظنَّت أنها بتملُّكها الأرض، إنما تملَّكت التاريخ والتراث والهوية. ومشروع الشركة لإعادة الأعمار، هو مشروع عقاري– ماليٌّ، يتناقض كلياً مع ما يفترضه مكان بيروت الطبيعي.
ابتدأ المشروعُ بتغيير معالم الشاطئ، على امتداد قلب المدينة التاريخي، وبتغيير واجهتها البحرية، فردم البحرَ، واستحدثَ في الغرب مارينا عملاقة، وأخرى في الشرق. وتجاهل المعطى الطوبوغرافي في قلب المدينة، فدمَّر هذا المعطى في الأسواق التقليدية. واستحدث أنفاقاً وجسوراً غير معهودة في المدن التاريخية، وألغى الساحات، وحوَّل قلب المدينة إلى صحراء، زنـَّرها بالأوتوسترادات، ففصل بذلك قلب المدينة عن جسدها. وهل يخفق قلب خارج الجسد!؟ وهل يعيش جسد بدون قلب!؟
التشويه الذي لحق بمدينة بيروت، وبمكانها الطبيعي، خلال عقد من الزمن (1992 – 2003) يوازي التشويه الذي لحق بالمدينة، وبمكانها الطبيعي، خلال أربعـة عقود (1950 – 1990). فتوسيع المطار، أدى إلى ردم البحر، وزوال الشاطئ الرملي في خلده. تغيرت الواجهة البحرية للمدينة بشكل فج. وفي الطرف المقابل من المثلث الطبيعي، تم ردم البحر في ضبيه. وأصبحت مياه البحر بعيدة ... بعيدة، عن بيت سكنته هناك منذ خمسة عقود. وللمشروع قسمٌ متبقٍّ لم ينفَّذ. فهل يكتمل؟ بردم البحر من مكب الدورة حتى ردم الضبيه، لتُبنى واجهة بحرية جديدة لبيروت الكبرى؟ نقيضة واجهتها البحرية الطبيعية؟
● وثاني ما يفترضه المكان الطبيعي لبيروت الكبرى، في الرؤية الهندسية، وفي العمران الذي يحققها، هو أن تبقى المدينة داخل حدودها الطبيعية. إلا أن المدينة، تبدو بلا حدود. تراها تردم مياه البحر، وتسد الخلجان، وتلتهم الشواطئ الرملية، وترمي الكتل الخرسانية في البحر، تحمي بها مرافئ استحدثت بامتداد الشاطئ. مرافئ نظنُّها أفواهاً فاغرة ستبتلع مياه البحرِ. من شاطئ طبيعي، فيه مرفأ تجاري واحد، زُرِعَ في شاطئ بيروت الكبرى، عشرات المرافئ. فخسر الشاطئ طابعه، وخسرت المدينة مكوناً رئيساً لهويتها. ثم تراها تتمدَّد شرقاً، فتضيع حدودها مع التلال.
كانت المدينة قد توسَّعت في الخمسينات، فتعدَّت حدودَها إلى البلدات المجاورة، وظهرت بعض المساكن الأنيقة في النقاش والرابية. إلا أن تمدُّد البنيان توقف عند أقدام التلال. أذكر، أنني كنت أرى المدينة من نافذة الطائرة، تحوطها في شرقها الشمالي، التلال بصنوبرها. والرؤية ذاتها، كانت تطالعني في جنوبها الشرقي. كانت التلال الخضراء متنفس المدينة الكبرى وحدودها.
وكان بإمكان الرؤية الهندسيـة، أن تُبقي الزنَّار الأخضـر فاصلاً، أو أن تحوِّله إلى مجموعة من البلدات/ الحدائق، على أن يُكثَّف (بضم الياء) البناءُ المرتفع فوق الزنَّار الفاصل. إلا أن المدينة أبت إلا أن تتخَّطى حدودها الطبيعية، بموازاةِ تخطِّيها لحُدود حقوقِها، في المجتمع، وفي الوطن، فامتدت إلى التلال، وابتلعت الزنَّار الأخضر الفاصل. وتسلَّقت، حتى وصلت إلى أعالي السفوح، فاتصلت بمراكز الاصطياف، وظهر البنيان فيها موحَّداً مع البنيان في الجبل.
التهمتِ المدينةُ البلداتِ الريفيَّة، وعمَّ البنيان المدينيُّ (Urbain) كلَّ الأماكن. غاب الريفُ، ولم تقم فيه مدينة. لا فرق في الشكل ولا في الوظيفة، بين البنيان في بعبدا، وعرمون، والنقاش، وعين سعاده، وبيت مري، وبين البنيان في الظريف، والطريق الجديدة، والأشرفية، وفرن الشباك.
فقدت الطرقات الموصلة إلى البلدات الريفيَّة، دورها كمسارٍ للنقل والاتصال، وصارت أسواقاً. تخطـَّت المدينةُ مكانها الطبيعي، فضاعت حدودُها، وفقدت بذلك جزءاً من طابعها، وأفقدت الريف القريب كل معناه.
● وثالث ما يفترضه المكان الطبيعي لبيروت الكبرى، هو أن تنطلق رؤيتها الهندسية، وينطلق العمران الذي يحقِّق هذه الرؤية، من الخاصيَّات الجغرافية للموقع:
البحر بدايةً، ومسارُ الشمسِ، واتجاه الرياح، ومكوِّنات الأرض من تربة وصخور وأشجار، ومن المعطى الطوبوغرافي للموقع الطبيعي، الأماكن المنبسطة الساكنة، والأماكن المرتفعة المتوترة، واتجاه جريان مياه الأمطار. فيأتي العمران كنصٍّ موحَّدٍ، ليشرح هذه الخاصيات، ويوضحها. يأتي العمران شفَّافاً في التصاقه بالأرض، فلا يحجبها، بل يدلُّ على طوبوغرافيتها وعلى الاختلافات فيها، ويُظهر التناقضات التي تصنع بتناغمها جمال المدينة.
وتتابُعُ بيروت التاريخية، جاء في موقع واحدٍ، محيطُ مرفأ طبيعي، لم يتغيَّر خلال قرون. فهو محميٌّ من الرياح الجنوبية الغربية، قليل الانخفاض عن منسوب البر.
وبيروت التاريخية هذه، ابتدأت، في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، بالتمدُّد خارج أسوارها، مستجيبة بأمانة لإملاءات مكانها الطبيعي.
انطلقت المدينة من المرفأ، وتوسَّعت جنوباً، باتجاه حرش بيروت، وأطراف طريقي صيدا والشام، متجنبةً الرياح الجنوبية الغربية، محافظةً على علاقتها الرئيسة بالبحر. ثم انحرفت قليلاً نحو الشرق. إلا أنها لم تغامر بالتوجُّه غرباً نحو رأس بيروت، وابتعدت عن التلال والساحل الرمليَّين الكائنين في الجنوب الغرب، في ما يعرف اليوم بتلَّة الخياط والرملة البيضاء.
ثمة مفاهيم رئيسة إذاً سادت في الرؤية الهندسية للمدينة، وفي العمران الذي حقّقها:
• المرفأَ القديم المحميُّ، هو الأساس، وهو جزء من النواة التاريخية للمدينة.
• قاعدة النسيج المديني، هي الشاطئ الشمالي على جانبي المرفأ.
• حدود هذا النسيج هي، التلال الرملية في الجنوب الغرب، والتلالُ في الشرق، وحرش صنوبر بيروت في الجنوب. وأطرافه هي مخارج المدينة نحو صيدا ودمشق.
استمر نمو المدينة مع ازدهار مرفئها. وتسارع امتداد البنيان وفق هذه المفاهيم، حتى نهاية القرن التاسع عشر. ولم يغيِّر الاحتلال الكولونياليُّ كثيراً في هذه الرؤية. والمحاولة العنيفة لزرع «ساحة نجمة» بيروتية تجاور ساحة البرج العتيقة، وتنافسها، لم تكتمل. ووُسِّع الطريق المؤدي إلى الجامعة الأميركية في بيروت. إلا أنه رغم اعتماده مساراً لـ «الترامواي»، بقي يصعد ويهبط ويتلوَّى، ملتصقاً بطوبوغرافية المكان الطبيعي للمدينة.
ثم تسارع انتشار البنيان، باتجاه منطقة رأس بيروت عامة، ومنطقة الحمراء خاصة في الخمسينات، وباتجاه تلة الخياط والرملة البيضاء في أوائل الستينات.
أما في الجزء الشمالي- الشرقي من مكان بيروت الطبيعي، فقد أدى النزوح من الجبال، وتنفيذ جزء من أوتوستراد بيروت ـ طرابلس في الخمسينات، إلى ازدياد كثافة البنيان الذي التهم بساتين البرتقال. فظهرت صورة الضاحية الشمالية الشرقية، الملتصقة بالمدينة الأم - بيروت الإدارية.
وازداد النزوح في الفترة ذاتها من الجنوب والبقاع، إلى الجزء الجنوبي الغربي من مكان بيروت الطبيعي، وتمدَّد البنيان في المنطقة بكاملها، وظهرت صورة الضاحية الجنوبية، المتصلة بدورها بالمدينة الأم ـ بيروت الإدارية.
واكتمل العقد في السبعينات، وظهرت صورة «بيروت الكبرى»، المزدحمة ببنيانها وبسكانها.
الضاحية (ضبية)

III – هل من نظرة شاملة إلى بيروت الكبرى اليوم؟ وكيف نراها، كيف نقرأها؟
يتضح من النظرة إلى مدينة بيروت الكبرى اليوم، أنها بالغت بتمدِّدها في الشريط الساحلي، كما بالغت بتسلُّقها التلال شرقها. فأصبحت بقياساتها، وبمساحتها، وبعدد سكَّانها، كأنها خارج المقياس (Hors échelle)، مقارنة بقياسات الوطن، ومساحته، وعدد سكَّانه. وبالغت أيضاً، بتعدياتها على البحر، فلم يعد لها حدود. حصلت قطيعة كاملة بين بيروت الكبرى، ومكانها الطبيعي. واللافت، أن بيروت الكبرى هذه، تبدو مكتظَّة في معظم مناطقها.
والمتنزِّه، يلاحظ كثافة البنيان ترهقه، من برج حمَّود مروراً بالسيوفي، والأشرفية، إلى البسطة، والمصيطبة، وصولاً إلى رأس بيروت. ويمكنه أن يلاحظ الكثافة الضاغطة للبنيان، إذا انطلق في نزهة أخرى، من رأس بيروت باتجاه برج البراجنة، مروراً بالمصيطبة، وبرج أبو حيدر، والمزرعة، والطريق الجديدة.
ويزداد شعوره بالاختناق، وهو يلاحظ غياباً شبه كامل للحيز العام. عنيتُ الحدائق العامة الواسعة، والساحات الكبيرة، والتقاطعات الموسَّعة، والمنحدرات المشجَّرة، والأرصفة بخاصة. فإذا استثنينا حرج بيروت، وحديقة محلة الصنائع، فإننا لا نجد في بيروت حدائق عامة ذات تأثير في محيطها. فحديقة تلة الخياط، وحديقة برج أبي حيدر، تكادان لا تظهران وسط البنيان الذي يحوطهما. ويَصحُّ القولُ ذاته، في حديقتي السيوفي ومار نقولا. وكما غابت الحدائق عن المدينة، كذلك غابت عنها الساحات.
وتصبح الأحياء اصطفافاً رتيباً للمباني إذا لم تتنوع الوظائف في كل حي. الدكان، والمقهى، والنادي، وحديقة الأطفال... لأذكر بعض الضروريِّ لاحتضان حياة لائقة. كما تُصبِح الأحياء اصطفافاً قامعاً للمباني، إذا لم يُنظـَّم كل حيٍّ حول حيِّزٍ عامٍّ مناسب، فيه الحديقة متنفـَّساً، والساحة مكاناً للقاء. وتُصبح الأحياء تجميعاً عشوائياً للمباني، إذا لم ينظـَّم كلُّ حيٍّ، وفيه عناصر الحيز العام متصلة بالطرقات، وبالأرصفة، للتأكيد بأن الأرصفة، هي جزء هام من الحيز العام المديني.

IV- بيروت الممَّزقة، بيروت الأحياء المبعثرة المغلقة
يرى بعضُهم أن بيروت هي اليوم مدينة مفتَّتة. وسبب تفتُّتها، تناحر أهلها، الديني– الطائفي– المذهبي. سأنظر إلى التفتت هذا، من زاوية التنظيم المديني للمدينة، أي الرؤية الهندسية والعمران الذي يحققها، تاركاً للمختصين مواضيع الدين ومتفرعاته.
بيروت اليوم، بعد انقضاء ربع قرنٍ على بدء إعمارها، هي مدينة ممزَّقة، بالمعايير المدينية، وبالدلالات المرئية للكلمة. إنها مدينة مزّقها الإعمار، وهي مجموعة بقعٍ مسكونة. فالمتجوِّلُ فيها بسيَّارته، إذ لا مجال في بيروت لنزهة على الأقدام، تصدُمه الأوتوسترادات التي تخترق المدينة، وتلك الالتفافية التي تزنرها. هي مستهجنة، في مدينة عتيقة، مكتظة، كمدينة بيروت.
لقد استعمل المخطـِّطون ومعهم المعمِّرون، المبضع بقسوة، في تصميم الأوتوستـرادات والبولفارات، وفي تنفيذها، فمزَّقوا جسد المدينة المكتظ. لم يكترثوا بالبنيان الموجود، ولم يلتفتوا إلى ساكنيه. لم يكترثوا بالمتغيِّرات الطوبوغرافية، وبإملاءاتها. فمسار الأوتوسترادات، عليه أن يبقى مستقيماً، يرى المخطـِّطون، فلم يكترثوا بالمباني التراثية، ولا بالمباني ذات القيمة الجمالية. ولم يكترثوا بالحدائق، أو ببقايا الساحات. على مسار الأوتوستراد أن يكون أفقياً أصرُّوا، دون تقاطع. فاستعملوا المبضع، واقتطعوا من لحمِ المدينة، شرائح عريضة مستقيمة. حفروا الخنادقَ عميقةً، والأنفاق ممتدَّة مُعتِمة، وأقاموا الجسور طويلة على طبقات. إنها أشبه بمجاري الأنهار، لا عبور من ضفَّة إلى ضفَّة إلا فوق جسور متباعدة. قسَّموا المنطقة الواحدة، والحي الواحد. وغالباً ما تمرُّ الجسور بمحاذاة النوافذ، أو تسد المداخل. لا مكان للمشاة، لا مكان للناس، في هذا المشهد السوريالي لجسد المدينة، محفوراً، ممزَّقاً، مقطّعاً. فكيف سيتمُّ التواصل بين أحيائها؟
● أن تُحفَر طرقاتُ السير السريع المدينية (Autroutes Urbaines) في جسد المدينة، أن تُمَزِّق أحياءها وتجعلُ التواصلَ بين ناسها مستحيلاً، يكاد، إن ذلك هو بلا شك خاصية بيروتيَّة.
● أن يتم الإعمار وفق شعار كل شيء للسيارة، ولا شيء للمشاة، هو أيضاً خاصية بيروتية، ربما رأيناها في الرياض. إلا أننا لم نرها، في دمشق أو في القاهرة، أو في باريس، خاصة.
● وبيروت بلا حيِّز عام ملائم، بيروت بلا مركز وبلا قلب، بيروت هذه هي مجموعة أحياء.
خسرت بيروتُ بما سمِّي إعمارُها حيِّزها العام، عندما تملَّكت شركةٌ عقاريةٌ النواة التاريخية للمدينة، فألغت ساحة البرج، التي رافقت المدينة في تحولاتها، الساحة، التي تبدو مقفلة، وفق رؤية «كاميليو سيت». الساحة - مكان اللقاء المركزي لناس المدينة. وألغت الشركة ساحة الدباس، وكانت صغرى الساحات في قلب بيروت. وصارت الساحتان وجزء من شارع بشارة الخوري، في تصورات الشركة، جادة البرج العريضة والمفتوحة على البحر. ماتت الساحتان ولم تولد الجادة، بعد ربع قرن.
تملَّكت الشركة العقارية النواة التاريخية لمدينة بيروت، فخسرت المدينة قلبها، والحيز العام فيها، ومعظم المعالم حاملة ذاكرتها الجماعية، فبدت كأنها قد فقدت كل العناصر التي توحِّدها مدينياً. لذا قيل فيها، إنها مجموعة أحياءٍ، معزولة، مزنَّرة بالأوتوسترادات والأنفاق والجسور.
ردمت الشركة العقارية البحر، وهدمت أمكنة الذاكرة الجماعية، وبنت فوق جزء من الردم، وفي مكان الهدم، ضاحيةً للأغنياء، عرباً ولبنانيين. سيتملَّكون، وفق رؤية الشركة، الأبراج المشيَّدة عند أطراف مياه البحر المردومة، فيملكون معها البحر، ويحجبونه بكبرياء عن الآخرين، حتى عن الساكنين في مرتفعات المدينة. تسكن شارع المكحول، فيحجب البحرَ عنك، برج يقوم على رصيف بولفار عين المريسة. ما هذا الفهم لتنظيم المدينة، ولعلاقتها ببحرها؟ ما هذا الفهم؟ لإملاءات المكان الطبيعي على الرؤية الهندسية للمدينة، وعلى العمران الذي يحقق هذه الرؤية؟
إملاءاتُ المكان الطبيعي، توجب البناءَ المنخفضَ بموازاة البحر. وغالباً ما يكون البنيان عامودياً على البحر وليس موازياً له. مبانٍ متباعدة كي يرى الساكنون بالخلف، البحر من الفجوات. تُنظَّم المدينة المطلَّة على البحرِ، كأنها مسرح روماني، تتوجه كلُّ مقاعده، نحو المشهد أمامه، وهو البحر.
خسرت بيروتُ بما سمِّي إعمارُها حيِّزها العام، عندما تملَّكت شركةٌ عقاريةٌ النواة التاريخية للمدينة


لم يأت الأغنياءُ، وبقيت الأبراج فارغةً في ضاحية الأشباح هذه، تحكي موتاً يتجدَّد كلَّ يوم. والمباني الموجودة في شارع المعرض وفي امتداداته، هي كولونيالية، يناهز عمرها قرناً كاملاً. رُمِّمتْ بإتقانٍ، وبحرصٍ على التفاصيل، جعلتنا نتجنَّبُ لمسها، مخافة أن نشوِّهها. رُمِّمت بإتقانٍ، فجاءت لمَّاعةً، تندلق النظافة من شبابيك طوابقها الفارغة، فبدت، كأنها رُمِّمت كي ننظر إليها، لا كي نسكنها.
افتُتِنَ بعضُهم في حينه بالمباني الكولونيالية المرمَّمة، فاعتبروا شارع المعرض ومتفرعاته، البقعة الوحيدة، المدنيَّة والمدينيَّة لبيروت!
أن تكون معايير المدينة، «المدنيَّة» و«المدينية» مَشهديَّةُ، متحفية، فهذا ما لا يتبنَّاه أحد، خاصة في أجزاء من المدينة، أُفرِغَت من نسيجها الاجتماعي بقوة السلطة وقوة المال.
فالناس لا يسكنون المتاحف.
قلنا للمفتُونين في حينه، إن المدينة المدينيَّة، ليست واجهة نُمتِّع النظر بتفاصيل بنائها. إنها، بالأساس، النسيج الاجتماعي الذي يسكُنها. والحفاظُ على النسيج الاجتماعي داخل المدينة المرمَّمة، هو الذي يضمنُ وحدتها، ويحظى بإعجاب المقيمين والعابرين.
فهل نسي المفتونون بالمباني المرمَّمة، في حينه أكرِّر، شارعَ المعرض والناس الذين كانوا يقيمون فيه؟ والمطاعم الشعبية، وأكشاك الصحف، وصراخ الباعة؟ ودكاكين النحَّاسين، وبائعي الأقمشة، والمكتبات؟ والجليلاتي، والسحلب، والأوتوماتيك، و«صحن الفول بليرة»؟
هل نسي المفتونون في حينه، مكاتب التجار، والمحامين، والمهندسين، والصحف، ونقابات العمال، في الطوابق، فوق العجقة الشعبية تملأ الأروقة؟
لم يُقِمْ أحدٌ في شارع المعرض ومتفرعاته بعد ترميمه. كل الذين كنا نراهم فيه هم عابرون. مقاه ومطاعم بأسماء أجنبية، في الطابق الأرضي، ولا نرى أجنبياً واحداً في المكان، وكل الطوابق العليا فارغة. لم نر حياةً في الشارع المرمَّم بتبذيرٍ، ولم نر أثراً، لأي تواصلٍ إنسانيٍّ فيه.
مُشِعٌّ من تحت، مُعتِمٌ من فوق كتبتُ مرة. هل رأى واحدنا مدينة مدينيَّة، مكوناتها المقاهي والمطاعم؟ مدينة مدينيَّة تنسُجها مبانٍ فارغة؟!
خشي المفتونون بهذه البقعة المرممة، منذ ما يقارب العقدين، أن تتدهور تحت وطأة الجشع وشهوة الربح، ويحوِّلها المال إلى مجموعة من الدكاكين. ولكن! إذا كان تدهور هذه البقعة سيكون بأن يحوِّلها المالُ إلى مجموعة من الدكاكين، فإن التدهور قد حصل مع البداية، وما البداية بالتالي سوى صورة النهاية، إذ ماذا في هذه البقعة الآن غير الدكاكين؟ والدكاكينُ، لو علم المفتونون، هي فارغةٌ، مقفلةٌ، زجاجها يغطيه الدخان الأسود، والغبار. كل المطاعم والمقاهي أُقفلت، مع استثناءات نادرة. والعابرون الذين عرفناهم منذ عقد ونيف، كرهوا المجالات وهجروها. والأمكنة فارغة حتى من المارة. البقعة مخيفة الآن بفراغها ووحشتها. إنها غارقة في العتمة، من «تحت ومن فوق».
ولتكتمل الصورة، فإن الذين كنا نراهم جالسين في هذه البقعة، في مقاهيها ومطاعمها، هم بمعظمهم، تلك القشرة التي تطفو على سطح المجتمع. قشرةٌ مقلِّدة، يصحُّ فيها قول المفتونين، بأن لا حاضر لها غير التقليد والمحاكاة، أي حاضر الغرب الرأسمالي الحديث. جرِّدوا هذه القشرة، من أثر الغرب فيها، فلن يبقى، فيها شيء أبداً… لن يبقى جامع ولن تبق كنيسة، لن يبق سوى الفراغ الفاقع.
V- بيروت الحقيقية، بيروت الناس
أما بيروت الحقيقية، فهي بيروت الناس، بيروت العميقة تحت القشرة، قشرة السلطة بكل مكوناتها، السياسية والمالية، والثقافية، في مؤسسات الدولة وخارجها، وقشرة الذين كانوا يجلسون في مطاعم شارع المعرض المرَّمم ومقاهيه، بيروت الحقيقية هذه، هي مدينيَّة أصيلة، وستبقى كذلك.
وفي بيروت الأصيلة هذه شوارع مأهولة، متكاملة الوظائف، مجالُها المعماريُّ متجانسٌ أحياناً، مقبولُ التناقُضِ أحياناً أخرى، وتنظيمها مقبولٌ، وأهم ما فيها نسيجٌ اجتماعيٌّ زاخرٌ بالحياة.
أدعو المفتونين بالمباني الكولونيالية المرَّممة منذ ما يقارب العقدين، إلى زيارة شارع عبد الوهاب الإنكليزي، ومحلة رأس النبع، ومحلة السيوفي، وشارع محمد الحوت، وشارع سورية، والكثير من شوارع الأشرفية، وشارع لبنان، والشوارع المتفرعة منه،
ستتولد لديهم أثناء الزيارة غبطة خاصةٌ، محفوفةٌ بمشاعرَ جمالية، مختلفة عن تلك التي شعروا بها من زمان في شارع المعرض، وبمشاعر إنسانية خاصة، تضج بحياة متعاضِدةٍ مُنتجة. سيشعرون في هذه الأمكنة، أن ثمة جهداً إنسانيّاً يُبذل يومياً، لتأتي المدينةُ بالراحةِ الفكريةِ والجسدية لساكنيها.
* معمار لبناني