أطلقت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة عام 2005 وبالتعاون مع وزارة الماليّة ومكتب رئيس الوزراء حملة تحت لافتة «براند إسرائيل – أو الماركة إسرائيل». لقد كان الدّافع وراء التقاء هذه المؤسسات الهامة على مشروع الحملة ذلك الشعور المتزايد في إسرائيل بأن صورة الدّولة ومكانتها في المشهد الدّولي يتدهوران نحو مستويات غير مسبوقة. التحضيرات لتلك الحملة بدأت قبل ثلاث سنوات، وكان التحدي الأساس أمامها ترفيع صورة إسرائيل في ذهن الرأي العام الأميركي بعد أن تسببت الانتفاضات الفلسطينية في 1987 و2000 بأضرار كبيرة لتلك الصورة، إذ لم يعد ممكناً في عصر التلفزيون والإنترنت قبول التفسيرات الإسرائيليّة لاستخدام تلك القوة المفرطة ضد الفلسطينيين، وهو أمر تكرر لاحقاً بعد 2006 عبر مجموعة من الاعتداءات المتلاحقة على قطاع غزّة.
«من أين نأتي» للفنانة الفلسطينية املي جاسر (2001-2003 ـ تفصيل)

حملة «براند إسرائيل» التي عملت عليها الوزارات الثلاث بمساندة فريق من أهم خبراء التسويق الأميركيين استهدفت تحديداً إعادة رسم صورة إسرائيل لتظهر في المخيال الجمعي العالمي كدولة عصريّة راقية بدلاً من مشهد العسكرة والتزمّت الديني. وقد أنفقت مبالغ هائلة على التسويق لإسرائيل في الخارج في مواجهة ما عدّته النخبة السياسيّة والأكاديميّة الإسرائيليّة بمثابة حملة عالميّة لنزع الشرعيّة القانونيّة عن الدّولة اليهوديّة. لقد كان ذلك مجهوداً هائل الأبعاد، حتى إن الفريق القائم عليه كان يدعى «مجموعة الماركة إسرائيل» واختصاراً بـ BIG التي تعني «كبير» بالعربية.
كانت وزارة الخارجيّة بخدمتها الديبلوماسيّة أول أجهزة النظام التي انخرطت في هذه المهمة، لكنها كانت بحاجة إلى جهود خبراء وأكاديميين لا سيّما في مجالات العلوم السياسيّة، والعلاقات الدّوليّة والتاريخ. وبالإفادة من خبرتها في مجال دراسة العداء للساميّة، بدأت ببناء قراءة لجذور هذا التحدي الجديد لإسرائيل المسمى «المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات». المحاولات الأولى في بناء تلك القراءة كانت وصفيّة أكثر منها تحليليّة لكنّها انتهت إلى الزّعم بتحديد لحظة ولادة هذا الشكل المُستجد من «العداء للساميّة» في مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصريّة الذي عقد في ديربان بجنوب أفريقيا أواخر صيف 2001. وبحسب هذه الدراسة الأكاديميّة الأوليّة، فإن ذلك المؤتمر الذي كانت فلسطين موضع اهتمامه، أطلق ما يشبه حملة لنزع الشرعيّة عن إسرائيل. ولم يفُت فريق الحملة أن مؤتمر ديربان وصل إلى خواتيمه قبل ثلاثة أيّام فقط من حادثة الحادي عشر من سبتمبر، وهكذا تم افتعال ربط بين التاريخين بوصفهما وجهين لذات الاستهداف للعالم الحرّ. ربط لم يتوانَ بنيامين نتنياهو عن توظيفه في أحاديثه العلنيّة مرّات عدة، مشيراً إلى تحالف غير مقدس بين الإسلام الرّاديكالي واليسار المتطرّف في الغرب ضد العالم الحرّ والدّيمقراطي الذي تمثّل إسرائيل رمزيته في أعلى أشكالها، على حد تعبيره. إلى جانب مؤتمر الأمم المتحدة في ديربان وحادثة الـ 11 من سبتمبر، فقد أُدرجت محكمة العدل الدّوليّة في هيغ كجزء من هذا التحالف لأنها كانت حكمت ضد جدار الفصل العنصري في 2004 فتأهلت بجدارة لتنضم إلى الموجة المُستجدة من العداء للساميّة.
مهمة الفريق «الكبير» كانت رسم صورة إسرائيل كجنّة على الأرض وحلماً تحقق، لترتبط بالأذهان بوصفها بلاداً جميلة، عابقة بالمرح ومتفوقة تكنولوجيّاً. كانت تلك النسخة الجديدة من إسرائيل. ولتسويقها، تم تأسيس عدة واجهات، إحداها كان «مشروع ديفيد» في أميركا الشماليّة الذي كان شديد الفاعليّة في الترويج لمقاصد الحملة بين طلبة الكليّات الجامعية. بُذلت جهود مكثفّة لتغيير تموضع إسرائيل من مجموعة الدول المنبوذة في العالم مثل كوريا الشماليّة وإيران إلى واحدة من أكثر 25 دولة في العالم يفتخر مواطنوها بالانتماء إليها، مع ربط سعادتهم بتقدّم البلاد في مجالات التكنولوجيّات الحديثة. وهذا كان يعني بالفعل تجنب حملات العلاقات العامة الإسرائيلية ذكر أي شيء عن صراع مستمر أو قضيّة فلسطينية.
بعد عامين من الجهود السريّة لفرق عدة متوازية، تم اتخاذ القرار بتجميع كل الجهود تحت مظلّة إدارة واحدة. تم التوصل لهذه الصيغة العمليّة في مؤتمر وزارة الخارجيّة الأوّل حول «براند إسرائيل» الذي عقد في تل أبيب عام 2007 وكان بمثابة الإطلاق العلني الرسمي للحملة. خصصت الخارجيّة وقتها أربعة ملايين دولار للحملة ــ مقارنة بثلاثة ملايين حجم الميزانية الكليّة لأنشطة البروغاندا في الوزراة - وخصص لوزارة السياحة 11 مليوناً من الدّولارات كميزانيّة خاصة لدعم برامجها الترويجيّة في أميركا الشماليّة. ومع أن أموالاً رُصدت للإنفاق على الدّعاية في أوروبا كذلك، إلا أنه من الملحوظ أن السياسيين في إسرائيل قرروا تكثيف جهودهم على الولايات المتحدة بالذات، إذ شعروا وقتها بأن حملة نزع الشرعيّة عن إسرائيل فيها كانت تحصد النجاحات وباتت أقرب إلى النّضوج، وأن الولايات المتحدة يجب أن تبقى للإسرائيليين على المدى الطويل كما حصن منيع.
استعان الإسرائيليون من أجل «براند إسرائيل» بأفضل دور الخبرة في الدّعاية والإعلان والعلاقات العامة عبر العالم ومنها «ساتشي أند ساتشي» (تطوّعت وقدّمت خدماتها مجاناً للدّولة العبريّة). كما كان في عداد الفريق أعضاء من BAV التي هي أكبر قاعدة بيانات حول الماركات في العالم والمتخصصة في قياس الاستجابات العاطفيّة للمجتمعات المستهدفة في الحملات الإعلانيّة للماركات المختلفة.
بدأ فريق «براند إسرائيل» محاولاته لتغيير الصورة السلبيّة عن إسرائيل من خلال تحديد معالم معينة في حياة الإسرائيليين واستدعاء الأميركيين إليها، وهم شرعوا لأجل ذلك في توفير رحلات مجانيّة لصحافيين ونقاد ليكتبوا عن العمارة وفنون الطعام والنبيذ، ومن ثم تصوير البلاد في تقاريرهم كأنها جنّة الذّواقة. وقد تبع ذلك أيضاً برنامج مكثّف للرحلات المجانيّة والهدايا لنجوم السينما والرياضة الأميركيين.
فشلت في تسويق نفسها كدولة يهوديّة ديمقراطيّة محبة للسلام


على الجانب الآخر، توجهت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة بالطلب إلى كل الفنانين وورش التمثيل وفرق الرّقص الإسرائيليّة بتضمين بعضاً من محتوى «براند إسرائيل» في عروضهم، بينما قطعت وزارة السياحة خطوات أوسع لإظهار إسرائيل كوجهة العالم الأولى سياحيّاً وقبلة ساحرة للاستجمام والمرح. وقد نشرت الوزارة في 2009 خارطة سياحيّة مصوّرة محدثة لـ «إسرائيل كبرى بلا حدود»، خاصة في ما يتعلق بمرتفعات الجولان السوريّة أو الأراضي الفلسطينية المحتلة. خارطة عرضت في مواقع عامة في عدة مدن كبرى حول العالم ومنها قطارات الأنفاق في لندن حيث تسببت بوسترات الحملة هناك في موجة احتجاجات واسعة في العاصمة البريطانيّة قبل أن تقرر إدارة النقل في المدينة إزالتها.
في عام 2010، أوردت اليوميّة الاقتصادية الإسرائيليّة «غلوبس» أن وزارة الخارجيّة خصصت ما يزيد عن 26 مليون دولار لأغراض الترويج لإسرائيل في السنوات القليلة المقبلة. وُجّه أغلب تلك المخصصات إلى معركة مواجهة حملات التشهير ونزع الشرعيّة القانونيّة عن إسرائيل التي بدأ وجودها يتفاقم على شبكات التواصل الاجتماعيّ والفضاء السيبيري عموماً. ويبدو أن الخارجيّة الإسرائيليّة كانت متفائلة بفرص نجاح أنشطتها تلك بالاعتماد على ما توصلت إليه وحدة الأبحاث في الوزارة بأنّ مرتادي الإنترنت يتفاعلون بشكل جيّد مع المحتوى الذي يثير اهتمامهم، بغض النظر عن ماهيّة المصدر الذي نشر ذلك المحتوى أو ارتباطاته السياسيّة.
رغم كل تلك الجُهود، فإن التقارير عن نجاحات فائقة لأنشطة الحملة لم تقنع حتى كاتبي تلك التقارير. وهكذا استدعي «معهد ريوت» ( The Reut Institute) كلاعب جديد لينضم إلى الفريق مكلّفاً بالنّظر في أسباب فشل الحملة في تحقيق نجاحات صريحة، وما الذّي يمكن عمله لتدارك الوضع. المعهد المذكور واحد من مراكز الأبحاث والدراسات التي تعمل معها الوكالة اليهوديّة، وكان أصدر تحذيراً عام 2010 من أن منسوب التهديد الذي تتعرض له الدّولة الإسرائيليّة في مجالات الديبلوماسيّة والعلاقات الدّوليّة هو في ارتفاع دائم. وقد وصف المعهد تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق بشأن غزّة عام 2009 وعمل عليه القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون بأنه يجسّد حملة نزع الشرعيّة عن إسرائيل بكل ما فيها: جذورها ومنطقها والنتائج التي قد تترتب عليها.
كان التقرير الأخير الذي بات يعرف بـ «تقرير غولدستون»، قد اتهم إسرائيل و«حماس» بارتكاب جرائم حرب أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ مع نهاية عام 2008. غولدستون، اليهودي، تراجع عن بعض محتويات التقرير بعد ضغوط شديدة من الجانب الإسرائيلي. ومع ذلك، بقي عند «معهد ريوت» سبب وراء الإدانات الدّوليّة التي وجهت إلى إسرائيل عن طريقة معاملتها للفلسطينيين، وأن تلك الإدانات هي نتاج الأيديولوجيّة الراديكاليّة الإسلاميّة التي تصدّرها إيران، وينفذها «حزب الله» وحركة «حماس». «معهد ريوت» توصل إلى أن إسرائيل فشلت في تسويق نفسها كدولة يهوديّة ديمقراطيّة محبة للسلام، وهو تحديداً ما سمح لنجاح مُبْهر لحملة التشهير بإسرائيل. وقد حذّر المعهد من أن استمرار تلك الحملة سينتهي إلى وصم إسرائيل كدولة منبوذة، وأنه يستحيل حل القضيّة الفلسطينية، ما سيدفع بفكرة الدّولة الواحدة قدماً. وعندما تحذّر المنظمات الصهيونيّة من مخاطر حل الدّولة الواحدة، فإنها تقصد ما ذهب إليه إيهود أولمرت عندما حذّر عام 2007 من أن إسرائيل ستنتهي بالضرورة في ظل هكذا سيناريو كدولة فصل عنصري.
بكلمات أخرى، وعلى الأقل وفق «معهد ريوت»/ الوكالة اليهوديّة، فإن كل أموال العالم وخبرات الدّعاية فيه، لا يمكنها مساعدة إسرائيل على تقديم نفسها كدولة مسالمة ومرحة. وبدلاً من أن يقترح المعهد مثلاً تبني سياسات أقل عنفاً ضد الفلسطينيين، فإن توصياته للحكومة الإسرائيلية كانت حول البحث في طرق للضغط على النخب الغربيّة لنشر صورة مزيّفة عن إسرائيل وإسهام الجاليات اليهوديّة في تكريس تلك الصورة في مجتمعاتها.
لقد أسهم الربيع العربي وما ترتب عليه من عواقب مؤسفة، لا سيّما الحرب الأهليّة في سوريا، في تخفيف الضغط قليلاً عن إسرائيل، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي نحو المآسي الإنسانيّة في أماكن أخرى من الشرق الأوسط. على أن الساسة والمخططين الاستراتيجيين الإسرائيليين رأوا في التورط الإيراني في سوريا (سواء من خلال المساعدة العسكريّة المباشرة لإنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا أو من خلال «حزب الله» اللبناني) نوعاً من خطر جديد، أو على الأقل مدعاة لإطلاق مناخ من قلق وجودي داخل وخارج إسرائيل (و ستعلِمنا الأيّام القادمة كيف سيستخدم هذا القلق المستثار في صرف الأنظار عن المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة الداخليّة كما الضغوط الخارجيّة).
مع ذلك كلّه، وحتى في أقسى لحظات الفوضى والعنف المفجع في تاريخ الشرق الأوسط، فإن الرأي العام العالمي لم يكن ليحلّ إسرائيل من قمعها للفلسطينيين. وعلى الرّغم من أن نخب السياسة والاقتصاد الغربيّة ما زالت تعتبر إسرائيل كجزء من عالم الغرب الديمقراطي، فإن المجتمعات تراها على نحو متزايد دولة كولونياليّة نجت من الزوال في القرن العشرين، لكن ذلك حصل بالنظر إلى منافعها للولايات المتحدة وانخراطها الفعّال في منظومة الرأسماليّة العالميّة. ليس هناك لإسرائيل اليوم أيّ أبعاد أخلاقيّة للدعم العالمي الذي تتلقاه. وعندما يتقلّص هذا الدّعم لأسباب عمليّة، فإن السيناريوهات - التي يطرحها سواء الصهاينة الجدد أو أدعياء ما بعد الصهيونية - من تحول الحياة في تلك الدولة المنبوذة إلى نظام فصل عنصري تبدو على وشك التحقق.
في هذا الوقت، فإن معظم الغربيين يمكنهم زيارة إسرائيل والاطلاع على حقيقة الأمور بأنفسهم، رغم أنه يمنع من الدخول مَن يُشتبه بتورطه في أي نشاط تضامني مع الفلسطينيين. الطلبة الجامعيون وقراء هذا الكتاب ينبغي أن يذهبوا بأنفسهم ويطلعوا على الأمور، وحبّذا إن أمكنهم أن يذهبوا في جولة في الضفة الغربيّة المحتلة وقطاع غزّة المحاصر ليخرجوا باستنتاجات واقعيّة عن أي مستقبل تمتلكه هذه الدولة الغريبة والمعقّدة.

نص مترجم لخاتمة كتاب إيلان بابيه «إسرائيل» الصادر بالإنكليزية عن «دار روتليدج» في المملكة المتحدة ــــ 2018 ضمن سلسلتها عن الشرق الأوسط المعاصر.