في روايتها الأولى «تدريبات على القسوة» («دار روافد» _ القاهرة _ 2014)، تقارب عزّة سلطان موضوعاً شديد الجرأة في مجتمع محافظ. تروي الكاتبة المصرية سيرة جسد أنثوي يعاني قسوة الاستعمال المزدوج، فالبطلة «عاهرة» من طراز فريد، دُفعت إلى طريقها عبر امرأة سحاقية استغلّت حاجتها وجمالها، ووجدت في تاريخها العائلي ما يبرر لها خوض هذه التجربة المثيرة.في ظل الوقوع تحت وطأة الاستغلال، واصل هذا الجسد رحلته في مجتمع يعيش على التواطؤ ليخلق قانونه القائم على استغلال إمكاناته المعرفية والجسدية لصالح التفرّد، شرط أن يبقى في فتحة فرج «ضيقة» لأنّ اتساع هذه الفتحة «يضيّق فرصه في الرزق ورغد الحياة».

بطلة الرواية، كما نراها، «عاهرة» من نوع مختلف، رطانها من النوع الثقافي الذي يجعلها أرقى من منافساتها في المهنة. عبر 30 عاماً تشكل خلفيةً زمنيةً للعمل، تجاور الكاتبة بين سيرة بطلتها، ونساء أخريات كنّ إلى جوارها. بعضهن دفعن بها إلى هذا الطريق، وأخريات كن مضيئات في عالم تصحو أجساده كلها في الظلام.
قبل هذا العمل، كتبت عزّة سلطان العديد من المجموعات القصصية، وكتب الأطفال، ودراسات في علوم المكتبات. أشار النقاد في أكثر من موضع إلى شعرية لغتها في السرد، خصوصاً في مجموعاتها القصصية المختلفة، كـ«امرأة تلد رجلاً يشبهك» (1998)، و«أحمد رجل عادي جداً» (2002)، و«تماماً كما يحدث في السينما» (2009)، و«جسد باتّساع الوطن» (2012).
لكن «تدريبات على القسوة» هي روايتها الأولى التي اختارت لها موضوعاً جريئاً وصادماً، لكنّها تؤكد أنها لم تقرّر الكتابة في هذا الموضوع إلا بعد عملية بحث استغرقت وقتاً طويلاً، مؤكدة أنّ فكرة الرواية كلها ذات علاقة بكونها باحثة ومهتمة بالشأن المعلوماتي، قائلة: «عشتُ لسنوات أرصد ظواهر اجتماعية وسلوكية لها علاقة بالمرأة، وكان أكثر ما يشغلني تلك الآثار التي تتسرّب في اللاوعي لدى المرأة، مما يجعلها تسلّع جسدها من دون إدراك ووعي. ولسنوات لم أستطع توظيف ذلك في عمل أدبي، فهو أكبر من قصة. وحين قررت الكتابة، لم يكن في ذهني أي شيء عن العمل سوى تلك الظواهر المتعلقة بتغيير الملبس والسلوك وبعض العادات الاجتماعية. وحين لاحظت أنّ البطلة تتجه نحو مصير العاهرة، قرأت مراجع حول قوانين البغاء، وتاريخه في مصر، ثم قراءات ذات علاقة بالدوافع الجنسية ومراجع في التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وفنون الحب كما اصطلح على تسميتها في التراث، خصوصاً تلك التي تعنى بالشرق الأقصى».
الزمن في الرواية ليست زمناً خطياً يمكن أن نتابع صعوده، بل هو جسد متشظٍ كما الأجساد التي عايشها.
تشير سلطان إلى أنها لجأت إلى هذا الخيار لأنّ «التعامل مع الزمن بشكل خطّي كان سيقدم نموذجاً تقليدياً للحكي، وهو أمر لن يفيد فكرة الرواية القائمة على وخزات في الذات والروح تؤدي إلى وصول البطلة إلى حالتها، ومن ثم كان التفكير في بنية سرد مختلفة اعتمدت على تشظي الزمن أولاً، ثم التعامل مع الزمن طيلة الأحداث بوصفه آنياً حاضراً، فيصبح تقدم الزمن في مخيّلة القارئ فقط، والتغيير الواقع يحدث للبطلة. كما أن حالة التشظي تصنع استراحات إجبارية للقارئ أثناء القراءة، فتهدّئ من حدّة التعرية للذات وللمجتمع وللقارئ الذي يجد نفسه متورطاً في الأحداث كشاهد عيان لبعض التفاصيل التي ترويها البطلة».
في مقابل قسوة الواقع الذي تعتمده الرواية، ثمّة لغة شاعرية متعددة المستويات، تراوح بين لغة يومية واقعية وقاسية وأخرى تقاوم قبح هذا العالم عبر نموذج «ليلى» الذي يشبه مرآة تتماهى فيها البطلة لتستعيد لمعانها المفقود. نموذج ابتكرته عزّة سلطان لتنجو من فخاخ القراءة الاستعمالية التي يمكن أن تطابق بين النص وصاحبته، أو، كما تقول الشخصية المصرية، موسومة بالتواطؤ، حيث تصنع لها المكاشفة والجرأة حالة من الصدام وأحياناً حالة من البعد. ولأنّ محتوى الرواية صادم يعرّي ويجرّد كل التواطؤ، كان من المهم وجود شخصية تخفّف من حدّة الصدام، فكانت شخصية ليلى التي جاءت لتخفيف حدّة الجرأة والكشف في الرواية عبر شاعرية النصوص الخاصة بليلى، فلغة السرد فيها مختلفة وناعمة، حتى العتاب يأتي كأنه دروس لم تنتبه إليها البطلة. فليلى هي استراحة البطلة من القسوة، واستراحة القارئ من الصراع والمكاشفة والجنس أيضاً. من ناحية تبدو ليلى الحاضر الغائب في النص كبؤرة للتشظي على مستوى السرد والزمن، بحيث نعود إليها كل فترة لنجمع الأحداث ونستريح. خلال الأحداث، تأتي الوخزات من خلال أشخاص خانوا وغدروا وتسببوا في انكسار البطلة، فكان لا بد من وجود شخصية تقدم جانباً آخر مقاوماً مثل أيقونة أو رمز لم يعد متعلقاً بتفاصيل بعينها.
في المقابل، حرصت عزّة سلطان على تقديم خطوط درامية أخرى. هناك خط درامي مستقل يبدو خطاً اعترافياً، حيث تقوم البطلة بالتحاور مع صديقة قديمة، تقدم لها تفسيرات وتطرح عليها تساؤلات بشأن جسدها «المستعمل». على هذه الخلفية، تعترف عزّة سلطان بأنّها كتبت الرواية منذ أكثر من عامين ولم تفكر في نشرها بسبب التفكير في كيفية التلقي، وما قد يصنعه من مشكلات اجتماعية بشكل عام ومشكلات في الوسط الثقافي، وما قد ينعكس علىها بشكل شخصي، مما جعلها تحتفظ بالرواية في الأدراج ولم يقرأها من الأصدقاء إلا عدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وكان من بينهم الناشر الذي كان متحمساً جداً للرواية، وظل طوال عامين يلحّ على نشرها، «لكنني في لحظة شجاعة، ربما، أو تهوّر، قرّرتُ النشر، وعليّ أن أتحمّل تبعات ذلك. فقط أكثر ما يقلقني هو المقاربة بين شخصية البطلة وشخصيتي، إذ اعتاد القارئ العربي أن يرى المؤلف هو البطل، وأظن أن هذا هو المأزق الحقيقي».