القاهرة | في القاعات الأربع الرئيسية في «أتيلييه القاهرة»، يقام معرض فوتوغرافي بعنوان «شوف» لمجموعة من مصوري جريدة «الشروق» المصرية بإشراف الفنانة رندا شعث. يقوم المعرض على فكرة لافتة: العمل على قصص إنسانية مصوّرة. ترصد هذه القصص وتوثّق بعمق أحوال المواطنين والمتغيرات التي تحدث في المجتمع، بعيداً عن الصورة الخبرية والإعلام التقليدي الذي لا يدعو إلى التفكير وينمّط البشر، وبعيداً أيضاً عن القوالب التي تؤكد الأفكار السائدة المتداولة.
«نهدف الى ذاكرة بصرية موازية ومغايرة». بهذا الوصف الموجز والدال، كشف الفنانون عن انحيازاتهم وفلسفتهم في العمل، لكنّ تأمّل الصور يحيل الى الكثير الذي يصعب اختزاله في كلمات.
يبدو المعرض إجمالاً مقابلة روحية مع بشر تركوا العديد من الأشياء التي تستحق التوقف لتأملها. تعبير «الشوف» بالعامية المصرية ليس إلا دعوة إلى استبصار متأمل. يقف هنا أمام خليط من المشاعر الدافئة والغاضبة وممارسة فعل المناجاة، وتلاوة الأرواح للأرواح وألم لا يريد أن يغادر. معرض لا يمسّ الثورة إلا بالمقدار الذي نحتاج إليه لنجدّد الأمل في النجاة.
يبدأ المعرض بمجموعة صور أعدّتها رندا شعث التي تخرجت في «الجامعة الأميركية بالقاهرة» (قسم دراسات شرق أوسط 1985، ونالت ماجستير في الإعلام من جامعة مينيسوتا 1987). شاركت في معارض كثيرة داخل مصر وخارجها، وأصدرت ثلاثة كتب مصوّرة «وطني على مرمى حجر»، و«مصر أمّ الدنيا» و«تحت سماء واحدة: القاهرة». تحمل القصة التي اشتغلت عليها شعث عنوان «الموسيقى صوتها» وهي أقرب إلى بحث مصوّر عن الموسيقيات المغايرات اللواتي لمعن في «ثورة 25 يناير». تكشف هذه المجموعة عن حسّ أنثوي لافت، وتورط مقصود في تفاصيل الحياة اليومية، بدءاًَ من الصورة الأولى للمغنيتين مريم صالح وشيرين عبده خلال وضع الماكياج قبل الصعود إلى المسرح. تبدأ رندا من لحظة تمايز قائمة على النوع وتؤكدها في بقية الصور التي تظهر فيها المغنيات كأيقونات للمقاومة من ناحية، ومن ناحية أخرى كبشارات للتغيير وعلامات على تحول اجتماعي لأنها تظهر انخراطهن الواضح في بيئات العمل والعائلة والحضور في المجال العام. هذا من دون إهمال اللحظات الخاصة التي تنطوي على شحنات أنثوية يمكن تعقب أثرها في بيت عازفة الكمان نانسي منير أو في طريقة احتضان ياسمين برماوي لآلتها الموسيقية أو في وحدة أكورديون يسرا الهواري في ظلام قاعة «روابط». كذلك، لا تغيب عن المجموعة التحولات التي رافقت صورة المغنية طوال قرن، سواء لجهة العلاقة مع الجمهور أو الإنتاج. تؤكد صور شعث على انفتاح المجال العام وقيمة الغناء البديل وانفتاحه على الجمهور المتحرر من تقاليد السماع الكلاسيكي والمتحرر أصلاً من قيود عملية الإنتاج بشروطها التقليدية، فالثورة كما تشير شعث «أعطت هؤلاء المغنيات مساحة للتعبير من دون قيود وأعطت للفقراء صوتاً وأجهزة وفضاء». في القاعة المجاورة لصور شعث، نتابع قصة روبير المعلم في مدرسة «دو لاسال».
قصة اشتغل عليها جورج وصمويل محسن اللذان يعملان مصوّرين مختصين بالأفراح. روبير كما نراه رجل بسيط كرس حياته بحبّ وتفان للخدمة في المدرسة لمدة 45 عاماً جعلته أحد رموزها. تشتغل القصة بمنطق اليوميات التي تظهر روبير بطلاً لسردية عادية من وجهة نظره لأنّها تعيد ترتيب أوقاته، في حين يبدو للناظر في الصور كبطل استثنائي في زمن لم يعد يلتفت لهذا النوع من البشر الذين يواصلون العطاء. وفي قاعة ثالثة، نتابع مجموعة صور قدمها زياد حسن (أصغر أعضاء الفريق) الذي كان قد صوّر فيلمين وثائقيين ضمن ورشات عمل عن فنّ الشارع. يركز زياد في قصته على تجربته في الانضمام إلى فرقة «الكوشة» للعرائس منذ 2012. وهي فرقة يديرها الفنان ناصف عزمي في قرية «تونس» في الفيوم، وتقوم على صنع دمى كبيرة والسير بها في الشوارع كطريقة من طرق الاحتجاج. وقد عرف جمهور القاهرة هذه الدمى بجولاتها خلال فترة الحكم العسكري الانتقالي عقب «ثورة 25 يناير». في هذه المجموعة، يظهر زياد أفكار أعضاء الفرقة ومؤسسها التي تعيد الاعتبار لفن عرفته مصر في العصر الفاطمي، وتأكد دوره السياسي في عصر المماليك حيث كانت الدمى حيلة للسخرية من الحاكم. لا يكتفي زياد برصد حضور الدمى في الشوارع، بل يكشف عن خلفيات تصنيعها، ويدخل المشاهد إلى عالمها الخفي الذي يظهر لاعبي العرائس مفتونين بالبهجة والثورة معاً.
وفي مواجهة هذه الحالة، يصطدم المشاهد بمجموعة صور لصبري خالد الذي يعمل مصوراً صحافياً في «الشروق» منذ عام 2012. صور تفيض بشحنات درامية انطلاقاً من اسمها وهو «غياب». تدور المجموعة حول تعامل العائلات مع غياب أبنائها الذين استشهدوا في الثورة أو سجنوا واختفوا لأسباب سياسية. اللافت أنّ هذه المجموعة لا تفرط في الميلودراما. هي لا تشتغل على أثر الزوال، بل تظهر الأثمان بصمت كأنها مارش جنائزي طويل يبدأ من ورقة روزنامة تظهر علامة غياب الشهيد، وتنتهي بصمت انتظار طويل تؤديه شقيقة الشهيد كريم خزام الذي استشهد في أحداث مباراة في مدينة بور سعيد. لا يشتغل صبري خالد إلا على ثمن الانتظار، ندوب الأرواح. يستطيع بكاميرا أن يحرك دمعة وأن يوقفها. لا ضوء في أعماله إلا من الأرواح المكلومة. النور في داخلها، بينما الظلام يحاصرنا جميعاً. ولعل أكثر ما يلفت في المعرض هو طريقة تنسيق الأعمال. بينما نحاصر بالدمع في مجموعة صبري خالد، نقتنص بسمة مع لوحات هبة خليفة الأقرب الى سردية امرأة وحيدة مع ابنتها الطفلة. هبة عملت في تعليم أطفال متسربين من المدرسة عن طريق الفن قبل احترافها التصوير الصحافي. تقدم هنا مجموعة «سيرة ذاتية عن مشاعر أم عاملة وقت الثورة». إنّها أقرب إلى كوميكس ساخر، يظهر المعاناة ويغلفها بغلالة ناعمة من الضحكات التي تلعب على تناقض حضور الأم في مواجهة الطفولة التي تهيمن على فضاء تلك المجموعة التي يتأكد فيها حضور الأم كعنصر مهيمن.
واستمراراً لخيط يضفر البهجة بالمعاناة، نطالع صور «الأسوار» لعلي هزاع الذي يعمل مصوراً في «الشروق» منذ عام 2011. يصوّر هزاع الأسوار الخرسانية التي لا تزال في شوارع القاهرة لمنع المتظاهرين من الوصول الى الميادين. يظهر التحايل والاستخدام اليومي لها بين التعامل معها كجداريات حاملة لشعارات الثورة أو مساحات باردة لمعاناة صنّاعها أو كحواجز بين حالة الثورة المستمرة والركود الطاغي خلفها. إنّها عملية قنص تراهن على أنّ اختفاء هذه الأسوار إما يكون انتصاراً للثورة أو عودة إلى نظام قديم.

«شوف»: حتى 17 ك2 (يناير) ــ «أتيلييه القاهرة» (طلعت حرب، وسط البلد) ـــ 0020225746730



من نحن؟

يشرح المصورون المشاركون في «شوف» التي نسقته رندا شعث أنّهم اختاروا «الفوتوغرافيا مهنة ووسيلة تعبر عن أفكارهم ومبادئهم في الحياة ولو جاؤوا من خلفيات مختلفة. جمعهم العمل في مكان واحد وعلاقات صداقة تصل الى الدفء العائلي. لديهم أفكار مشتركة حول رؤية العالم، والفن والتصوير، ومساحة مشتركة للفضفضة ومناقشة تفاصيل الحياة اليومية، وهموم الوطن وما تتركه من آثار وندوب على قلوبنا».