قلّما شغل مخرج قلب الجدل السياسي والثقافي عبر العالم كما فعل مصطفى العقاد (1930 ـــ 2005) عبر فيلمه الاستثنائي «الرسالة» بنسختيه العربية والإنكليزية (1976). أراد السينمائي الأميركي من أصل سوري من هذا العمل، تقديم رواية قواسم مشتركة مقبولة من جميع الأطراف عن قصّة الإسلام الأوّل. تحوّل الفيلم إلى حكاية قائمة بذاتها منذ لحظة التفكير في إنتاجه، مروراً بالألغام السياسية التي عبرها مخرجه أثناء تصويره، وانتهاء بيوم عرضه الأوّل في أميركا الذي ألغي إثر عمليّة احتجاز رهائن في واشنطن. في هذا الوقت، كانت معظم الأنظمة الملكيّة في العالم الإسلامي، قد امتنعت عن عرضه بإيحاء من النظام السعودي. وجاء الغياب التراجيدي للعقّاد وابنته ريما في حادث تفجير غامض لصالة فندق في عمّان (نسب حينها لتنظيم «القاعدة» الوثيق الصلة بالأنشطة الاستخبارية الأميركية) ليضفي صبغة أسطوريّة تكاد تكون إغريقيّة المزاج على الفيلم وصانعه العبقري الذي طالما طاردته لعنة التوقيت السيئ في مسيرته المهنية ولحقت به حتى موته المؤسف. وإن كانت بعض المصادر استهجنت أن تكون تلك الحادثة عرضيّة، لا سيّما أنّ العقاد كان وقتها يعمل على إنتاج ضخم عن صلاح الدّين الأيوبي، وأن أطرافاً وجدت في ذلك اقتراباً مقلقاً من وقائع احتلالات أجنبيّة معاصرة في الإقليم على يد مخرج تفوق شهرته منتجي الأفلام العرب الآخرين.خلافاً لظروف مرحلة نهاية السبعينيات التي تطلّبت تأليف قلب «الأمة الإسلامية» وراء المشروع الأميركي ضد الاتحاد السوفياتي وتبنّي صيغة وهابية شديدة التطرّف لأجل ذلك، كانت إحدى تجلياتها حصار فيلم «الرسالة»، فإن أسطورة الفيلم ومخرجه مرشحة لحياة جديدة بعدما وجد الجيل الجديد من حكام العالم العربي، ما كان وجده الجيش الأميركي قبلهم في «الرسالة»: سرديّة تاريخيّة لاهوتيّة منسوجة بدقّة عن تجربة الإسلام الأولى تخدم جهود كسب حرب العقول والقلوب لمصلحة تديّن نقي معتدل يمكن التعايش معه عالميّاً وتتقبله مختلف تيارات الإسلام الرسمي. ولذا، فاستعادة هذا الفيلم اليوم بعد 42 عاماً من خلال إعادة تقديمه مرمماً بتقنيات رقميّة حديثة، لهي أبلغ تأكيد على طبيعة التحولات العميقة في منهجيّات إدارة الهيمنة في الشرق الأوسط، وإعلان شديد الرمزية سيذكره المؤرخون لتاريخ المنطقة كناية عن نهاية مرحلة توظيف الوهابيّة المتطرفة لمصلحة نسخة تصالحيّة منها تتناسب والمزاج الكوشنري السائد في واشنطن بعد ترامب.

بتقنية الـ4K

أطلقت شركتا Empire International وTrancas International فيلم «الرسالة» بتقنية وضوح الشاشة الـ4K الرقمية في الصالات اللبنانيّة. صّور الفيلم على مدار عام كامل (1974-1975)، وتم ترقية نسختي الفيلم، العربية والإنكليزية، ليستطيع الجمهور مشاهدته بتقنية الـ4K في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأدى بطولة الشريط مجموعة من النجوم السينمائيين، ومنهم عبد الله غيث والممثلة السورية القديرة منى واصف، فيما شارك في بطولة نسخته الانكليزية النجم الراحل أنطوني كوين، وأيرين باباس، وديميان توماس.


ينتمي «الرسالة» بامتياز إلى ما يعرف بسينما «تاريخ الهوية». هو نوع من تأريخ تنتظم فيه المنتجات الثقافية، ومنها الأفلام، التي تسعى من خلالها المجتمعات إلى تكريس سردية تمتلك خاصيّة الثبات عن ماض ذهبي فولكلوري، تخدم أساساً صيغاً سياسيّة حاليّة وأوضاعاً قائمة عبر خلط الوقائع بالأساطير واجتزاء الحقائق.
بدأت قصة «الرسالة» بعدما كانت العمليّات الفدائيّة الخارجية التي نفّذها اليسار الفلسطيني في السبعينيّات، قد بدأت تلقي بظلال قاتمة على نموذج المسلم العربي في المخيال الغربي المغيّب تماماً. هذا ما استدعى من الأنظمة الملكية العربية البحث عن أدوات تعيد ترميم بعض الجسور مع الجمهور الغربي من خلال إظهار الإسلام كدين مسالم ينتمي إلى ذات التقاليد اليهوديّة – المسيحيّة التي تشكّل مساحة كبرى من لاوعي ذلك الجمهور. السينما الأميركيّة تحديداً كانت تعيش وقتها ذروة صعودها كأداة لتشكيل الرأي العام، فكانت إحدى هذه الأدوات التي تبنّاها السعوديون، دائماً وفق نصيحة المستشارين الأميركيين. هكذا، تقرر إنتاج فيلم هوليوودي بتمويل عربي يجمّل أنظمة المنطقة ويسند رواياتها المؤسسة. وكلها أنظمة - من الخليج إلى الأردن فالمغرب - تدعم شرعيّة هيمنتها على شعوب المنطقة بشكل أو آخر من خلال انتسابها للإسلام وسلالة نبيه.
تولى سفير الظلام السعودي المتجوّل عدنان الخاشقجي مهمّة العثور على المخرج المناسب، ليجد بضربة حظ هائلة العقاد، المخرج السوري الذي صنع مهنته في أجواء هوليوود، وما لبث يعيش هاجس فنان عبقري يحلم بتقديم صورة جديدة عن العرب بدلاً من تلك التي استوطنت السينما الأميركية بوصفهم أوغاداً ولصوصاً تافهين.
دفع خاشقجي مقدّم الفيلم، وانطلق العقاد إلى تحضيراته. لكن الرياض بدت مترددة في استكمال التمويل بعدما توضحت رؤية الفيلم الإخراجيّة، تحسباً لردود أفعال قد تتسبب بها أوساط الوهابيّة المتطرفة التي كان توجه السلالة الحاكمة. ولذا، فإن العقاد اضطر لاستكمال بقيّة التمويل من وزراء وأمراء من الكويت والبحرين، وشرع في تصوير فيلمه بالقرب من مراكش. تطوّر الموقف السعودي الرسمي خلال السنتين اللتين عمل فيهما العقاد على الفيلم باتجاه مزيد من التصلّب. ويبدو أن العقّاد رفض التوقف عن استكمال فيلمه، فمارس السعوديون ضغوطاً على ملك المغرب الذي كان بحاجة لغطاء الملكيّات العربية الأخرى لمشروعه الاستيطاني في الصحراء الغربيّة، فأُمر بوقف التصوير في موقع الفيلم بالقوّة.
أحسّ العقّاد بالخيانة، لا سيّما أن الفيلم كان يحتاج إلى ستة أشهر أخرى قبل إنجازه وأن خسائره الماديّة المباشرة نتيجة للتوقف ستتجاوز ستة ملايين دولار أميركي. هنا، لجأ إلى العقيد معمّر القذافي الذي كان عيّن نفسه وريثاً للتراث الناصري المعادي للرجعية العربية. أعجب القذافي بكفاءة العقاد بعد إطلاعه على مقاطع من الفيلم، وتبنى انتاجه بالكامل في ليبيا. كانت تلك فاتحة علاقة عمل طويلة للعقاد مع العقيد أثمرت لاحقاً فيلمه الأفضل فنيّاً «عمر المختار» عن سيرة أيقونة المقاومة الليبيّة ضد الاستعمار الإيطالي.
غضب السعوديون من عناد العقاد، فمنعوا عرض الفيلم ووجهوا الأنظمة الرجعية العربية لمنعه كذلك. وهو ما وافق الرئيس السادات، فسحب الأزهر مباركته المكتوبة للفيلم ومنع على إثرها في مصر والمغرب ودول الخليج. إلا أنّه نجا من المنع في لبنان بسبب دعم المجلس الشيعي الأعلى وموسى الصدر شخصيّاً الذي سبق أن بارك سيناريو الفيلم منذ البداية، وكذلك في الأردن حيث كان الملك حسين صديقاً شخصيّاً للعقاد. وقد دفع السعوديون أبواقهم الصحافية عبر العالم لتشويه الفيلم وإظهار نقاط ضعفه. بل إنّ جريدة «الأهرام» المصرية استبقت العرض بقولها إنّ أنطوني كوين (بطل النسخة الإنكليزيّة من الفيلم) سيلعب دور النّبي. أمر تسبب في احتجاجات بين الجاليات المسلمة في الغرب ودعوات لسحبه من العرض توجت بعمليّة اختطاف رهائن في واشنطن قتل فيها شخصان قبل أن ترضخ الأجهزة الأمنيّة لطلبات الخاطفين وتلغي العروض الافتتاحيّة التجاريّة للفيلم عبر الولايات المتحدة.
لكن هذه الحرب على العقّاد وحصار السعوديّة لـ «الرسالة» في العالم الإسلامي، لم يمنعا الجمهور المسلم من الإقبال على الفيلم، لا سيّما من خلال أشرطة الفيديو المقرصنة. وجد فيه كثيرون دعاية جيّدة للفكرة الإسلاميّة، ورشّح كفيلم وموسيقى لجائزة الأوسكار، وإن كان غلاة الوهابيّة هاجموه بشدّة في كل مناسبة بوصفه يخلط روايات شيعيّة المصدر بالسردية السنية الوهابية الكلاسيكية عن سيرة الصحابة الأُول، إضافة إلى تحريمهم المبدئي للصورة والموسيقى فكيف إذن في فيلم عن الإسلام الأوّل!
لاحقاً وجد خبراء الأنثروبولوجيا في الجيش الأميركي في فيلم «الرسالة» نسخة معتدلة مناسبة عن إسلام واحد، فنشروه ضمن جهود الحرب الناعمة لكسب تأييد مسلمي آسيا في أفغانستان وكشمير وغيرهما.

نسخة تصالحيّة تناسب المزاج الكوشنري السائد في واشنطن بعد ترامب


تغيرت السياسة منذ أيّام العقاد، لا سيما بعد انتخاب دونالد ترامب للرئاسة في الولايات المتحدة، فأسقط الجيل الجديد من السّلالات العربيّة رهاناته على النسخ المتطرفة من الإسلام التي أدت دورها بكفاءة بين 1979 – 2016 لفائدة نسخة عصرانيّة يسهل الدفاع عنها من قبل أنظمة الغرب. فكانت القرارات التغييريّة الحاسمة على المستوى الداخلي السعودي، ومنها عودة العروض السينمائيّة العامة التي كان فيلم «الرسالة»، أوّل عروضها لفيلم عربي منذ منع دور السينما في المملكة مجاملة للتيار الوهابي المتطرّف في 1980.
النسخة المجدّدة قام عليها نجل العقاد الأصغر مالك الذي يبدو أنّه مخرج محدود الموهبة يعيش في جلباب أبيه من دون أن يتجاوزه. يكتفي بإعادة تقديم أعمال مصطفى العقّاد أو إنتاج الوثائقيّات عنها، وهو عرض هذه النسخة المجدّدة من «الرسالة» في «مهرجان دبي السينمائي» في كانون الثاني (يناير) الماضي قبل أن يُقدّمه تجارياً برعاية رسميّة في السعوديّة والإمارات وبضع دول أخرى خلال موسم عيد الفطر. وأبدى سعادته بعودة «الرّسالة» إلى شاشات العرب الكبيرة وما ستجرّه من أرباح لم يسعف الوقت والده الرّاحل لجمعها. إذاً، إنّها عودة إلى ملعب الايديولوجيا في عالم مغاير هذه المرّة، وتحديداً من بوابة بيت الطاعة السعودي (الإماراتي) تماماً حيث كانت بدايات الفيلم الأولى. لقد كان العقاد الأب سابقاً لعصره. وكذلك عدنان الخاشقجي، لكن توقيتهما كان في ما يبدو سيئاً، فمضيا قبل موسم الحصاد.

* «الرسالة»: «أمبير» (1269)، «سينما سيتي» (01/995195)