مئة عام على ميلاد حنجرة اليسار المصري الشيخ إمام (1918 ــ 1995)، الممنوع من الغناء في كل الأزمنة. شيخٌ ضرير ولدَ في إحدى قرى مصر الواقعة على ضواحي القاهرة، لم يكن ابناً للمدينة أو غائباً عن الأحداث في الريف. ولدَ على حافة المدينة، وحافة تفجر الدولة المصرية مع ثورة ١٩١٩، وأصبح أحد أبناء جيل ما بين الثورتين (١٩٥٢ - ١٩١٩).مع بداية الستينات، تعرف إلى رفيق دربه الشاعر أحمد فؤاد نجم، وشكلا ثنائياً مزعجاً لكافة الأنظمة من خلال أغانيهما التي تنتقد كل شيء وأي شخص، لم يكن أحد بعيداً عن سوط أغانيهما. حاولت دولة يوليو تقريبهما من بلاطها، لكن الأمر لم يدم طويلاً، حيثُ لا يمكن احتواء صعاليك لا يطمعوا في شيءٍ، سوى الصراخ بحرية كاسرة أي صمت قد تفرضه السلطة.
خرجت مصر من هزيمة ٥ حزيران (يونيو) ١٩٦٧ محطمة تماماً، ليس فقط على المستوى الحربي، بل على كافة الأصعدة والمستويات. كان الأمر بمثابة انهيار لأحلام دولة الضباط الأحرار وشعارات ثورة يوليو ١٩٥٢، انهارت معها النخب الثقافية والفنية التي تسابقت قبل الهزيمة بالتبشير بدولة يوليو. فقد الجمهور المصري ثقته بجميع من شارك في حفلات التمجيد وصناعة الآمال الكبرى.
في الوقت نفسه، كان صوت الشيخ إمام يصدح عالياً مندداً بحكم الضباط الأحرار ورئيس الدولة آنذاك، جمال عبد الناصر. لم يسلم أحد من انتقاد وسخرية أغاني إمام ونجم. استهزأ من أم كلثوم في أغنيته «يا مرضعة قلاون»، ولم يسلم المطرب عبد الحليم حافظ - الذي يعتبره البعض ابناً لثورة يوليو وعبد الناصر- من هجاء إمام، حيثُ قال فيه: «لماليم الشخلوعة الدلوعة الكتكوتة/ الليلة هيتنهد ويغني ويقول/ يشيلوه قال ع لندن علشان جده هناك/ من بعد ما يتلايم ع دخل الشباك/ ويهرب أموالك ويقولك أهواك». كانت سخرية إمام ونجم تشكل مرآة حقيقية لصوت الشعب الذي استيقظ ذات يوم ووجدَ نخبته قد تساقطت مع طائرات الجيش المصري بعد النكسة.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يرتبط فيها اسم الشيخ إمام ونجم بأم كلثوم. غنى إمام في هجاء كوكب الشرق أغنية «كلب الست»، وهناك حادثة قديمة تربط إمام بأم كلثوم، حِينَ كان يعمل في بداية حياته الفنية في فرقة «كورال» مع الشيخ زكريا أحمد، في فترة ازدهار ألحان الشيخ زكريا مع أم كلثوم. ذات يوم، كان إمام جالساً على المقهى يغني بين أصدقائه وشعرَ بالسلطنة، فبدأ في غناء أحد ألحان الشيخ زكريا لأم كلثوم، وبدأ الناس في غنائها، قبل أن تغنيها كوكب الشرق في حفلاتها. علمت أم كلثوم بالأمر وغضبت، ثم طلبت من الشيخ زكريا طرده من فرقته. طُردَ إمام من الفرقة بأمر من الست، لأن تلك كانت المرة الأولى التي تسرب فيها أغنية لأم كلثوم قبل أن يسمعها الجمهور بصوتها.
لم يتوقف عود الشيخ إمام عند هجاء بعض النخب الثقافية والفنية فقط، لكنه وصل إلى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، رجل الدولة المخضرم، وأحد صناع القرار آنذاك. سخر إمام ونجم من هيكل في أغنية «بصراحة يا أستاذ ميكي». ثم جاءت القشة التي قسمت ظهر البعير، حِينَ غنى الشيخ إمام «خبطنا تحت بطاطنا يا محلى رجعت ظباطنا من خط النار» بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧. اعتقلت السلطات المصرية الشيخ إمام ورفيقه أحمد فؤاد نجم وأودعتهما في سجن القلعة. سُجنَ الشيخ إمام في زنزانة مختلفة عن أحمد فؤاد نجم. لكن ذلك لم يمنعهما من تأليف الأغاني التي تزعج السلطة. حاول البعض التوسط لدى الرئيس جمال عبد الناصر للإفراج عن إمام ونجم، لكن رده كان واضحاً: «طول ما أنا عايش مش هيخرجوا من السجن». مات عبد الناصر بعد تصريحه بأيام قليلة، وخرج إمام ونجم من السجن، قبل أن يزوراه مراراً في عهد السادات.
تفتحت مدارك الشيخ إمام ورفيقه نجم داخل السجن. أصبح لهما العديد من الأصدقاء في الوسط الصحافي والثقافي، ما وسع إدراكهما نحو القضايا العربية والعالمية. لم يعد مفهومهما الثوري يقتصر على الأحداث المحلية فقط. تحول الشيخ إمام من صعلوكٍ غاضب إلى مطرب المثقفين واليسار. في الوقت ذاته، كانت الثورة الفلسطينية تشتعل من بيروت. عاد الواقع الفلسطيني ليفرض نفسه على الساحة بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن. وقتها، غنى الشيخ إمام «يا فلسطينية» التي أصبحت لاحقاً واحدة من أشهر أغانيه. أصبح الشيخ الضرير ملء السمع والبصر من المحيط إلى الخليج. بدا وقتها أن الأغنية السياسية عند إمام ونجم تتخذ طوراً جديداً غير مرتبط بالأحداث المصرية فقط.
شهرة الشيخ إمام وأغانيه التي أصبحت جزءاً رئيسياً من معظم الحركات العربية السياسية، دفعت الناقد السينمائي الهاشمي بن فرج، الذي كان طالباً آنذاك في باريس ١٩٧٤، إلى السفر إلى القاهرة للقاء الشيخ إمام وتسجيل حفلاته الخاصة وإصدارها بعد عامين في إسطوانة بعنوان «عيون الكلام» وكانت تلك الأسطوانة الأولى للشيخ إمام.
بعد مرور مئة عام على ميلاد الصعلوك الضرير الذي أزعج السلطة من غرفته الصغيرة في حارة «حوش قدم» في حي الغورية بالقاهرة، لا يمكن النظر إلى منجزه الموسيقي بمعزل عن السياق التاريخي، ولا يمكن التعامل مع أغانيه من خلال نظرة نقدية فقط، لكن الحدث هو البطل الرئيس في أغنية الشيخ إمام، وقد تبدو أغنيته توثيقاً ورواية غير رسمية للأحداث الكبرى التي واكبها. تتوارى أغانيه أحياناً مع حالة تأميم المجال العام التي تعيشها البلاد، لكنها تعود وتحضر بقوة مع اشتعال الأحداث مرة أخرى.


برنامج الأمسية
تحت عنوان «100 سنة حلوة»، يحتفل «مترو المدينة» بالذكرى المئة لميلاد الشيخ إمام عيسى مساء اليوم (22:00). يغني في الأمسية أشرف الشولي، ربيع الزهر، ليليان شليلا، عبد الكريم الشعّار، سامي حواط، زياد الأحمدية، ساندي شمعون، أحمد الخطيب، سماح المني، عبد قبيسي، خالد صبيح، نعيم الأسمر وفرح قدور. سيقدّم هؤلاء باقة من أغاني الشيخ إمام، بعضها مشهور مثل: «مرّ الكلام»، «البحر بيضحك ليه»، «وهبت عمري للأمل»، «حلاويلا»، «ملاح يا أسمراني»، «مصر ياما يا بهية»، «شيد قصورك»، إلى جانب أغنيات أخرى لم تشتهر كثيراً، مثل: «بصراحة يا أستاذ ميكي»، «أحزان القرد»، «بوتيكات»، «الشربة العجيبة» تقدمها ساندي شمعون، ضمن مشروع قد بدأته منذ سنوات، يضيء على أغاني الشيخ إمام التي لم ترتبط بحدث معين مثل أغانيه المشهورة.

* «100 سنة حلوة»: 22:00 مساء اليوم ــ «مترو المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 76/309363