بدأ فيليب عرقتنجي (1964) مشواره بعدد من الأفلام التسجيلية إثر انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، قبل أن يُعرف على نطاق واسع بفضل باكورته الروائية «بوسطة» (2005). وبما أنّ هذه الأعمال لم تعرض إلا على بعض الشاشات المحلية كـ lbc، أو على قنوات فرنسية في بداية التسعينيات، رغم نيلها جوائز في مهرجانات عالمية عدة، قرّر عرقتنجي أخيراً إصدارها في مجموعة dvd (مجموعة فيليب عرقتنجي ــ الأفلام القصيرة والوثائقية) أصبحت اليوم في متناول الجمهور اللبناني.
عند انتهاء الحرب، كان عرقتنجي مقيماً في فرنسا التي هاجر إليها هرباً من الموت. ومثل العديد من المخرجين الذين زاروا لبنان أو عادوا إليه بعد مرحلة ما سمي «السلام»، وجده مسرحاً مغرياً لتصوير آثار الحرب. هكذا بدت بيروت بعد الدمار، تأملَتها كاميرا عرقتنجي في فيلم «بيروت أحجار وذكريات» (18 د ــ 1993)، حيث قرأ المخرج أبياتاً لناديا تويني عن بيروت، على خلفية صور الدمار الذي خلفته الحرب.
كان عرقتنجي قد زار لبنان قبلها عام 1990، فوثّق في فيلم «طيران حرّ» (18 د ــ 1991) عبر التعليق في سمائه. هذه المغامرة ستبدأ من ثكنة المسؤول العسكري في القوات اللبنانية آنذاك فؤاد مالك، إلى القرى التي سيحلّق فوقها في محاولة لتفادي إطلاق النار من الأرض.
كان عرقتنجي يخرج تلك الأفلام التسجيلية لعرضها في فرنسا، وهذا ما كان واضحاً في طريقة مخاطبته المشاهد. وهو سيظهر في بعض الأحيان زائراً في بلده الأمّ، بعيداً ومختلفاً عن المجتمع الذي يصوّره، وإن حاول من خلال النصّ وإيقاع تعليقه الصوتي وفي طريقة تصويره للطقوس الدينية أن يؤكد انتماءه إلى هذا المجتمع. حاور أغلب شخصياته باللغة الفرنسية، وبدا معها أكثر انسجاماً من اللغة العربية، وهذه الظاهرة ــ اللغة ــ أيضاً هي وجه يميّز المجتمع الذي صورّه فيليب.
ما يميّز أعمال عرقتنجي التسجيلية أنها تعكس وجهة نظر مختلفة عن تلك التي رأيناها مع المخرجين اليساريين أو المتعاطفين مع اليسار والمقاومة الفلسطينية في تلك الحقبة. بعد فتح خطوط التماس، دخلت كاميرا فيليب إلى المجتمع المسيحي خارج العاصمة. مجتمع كان يصوّر نفسه كأقلّية مهدّدة خائفة، فرصد عرقتنجي طقوسه ومعتقداته، وعاداته، وهواجسه، كما في فيلم «وادي قاديشا» (1992) الذي صوّر إيقاع السكان الذين يعيشون حول الوادي الذي لجأ إليه النسّاك الموارنة عند قدومهم إلى جبال لبنان هرباً من الاضطهاد. وفي «دروب النساء» (26 د ــ 1994)، روى حكايات أربع نساء في درب الحرب الطويلة مع مراجعات ومشاعر وتجارب دينية ودنيوية تختصر فيها هؤلاء النساء أفكار بيئة لا تزال تشعر بأنها مهددة، حيث أهلها ينتظرون العجائب ويستندون إلى إيمانهم بعدما لم تفض الحرب إلى أي نتيجة أو خلاص.
تشكّل أفلام فيليب التسجيلية مادة توثق مجتمعاً عاش أحداثاً لم تصبح من ماضيه بعد، حتى بعد مرور عقدين على تصوير هذه الأعمال، وهي تضيف إلى الأرشيف السينمائي صوراً وشخصيات جديدة من الحرب ومآسيها. ليس هناك من مكان إلا لمشاهد الحرب في ذاكرتنا الجماعية، بالإضافة إلى بعض الشهادات التي قد تشكّل دراسة ميدانية عن المجتمع المسيحي في لبنان بعد 15 عاماً من الحرب الأهلية.
يضاف إلى المجموعة التي طرحها السينمائي أخيراً، فيلما «من عيون الأمهات» (52 د ـــ 1992) الذي يجول على أمهات من طبقات وطوائف مختلفة وحّدتهن تجربة فقدان ولد أو زوج خلال أحداث الحرب، و«حلم الطفل البهلوان» (52 د ــ 1997) عن رحلة فتى مغربي يبتعد عن أهله ليكسب قوته من الاستعراض البهلواني. بالإضافة إلى الأفلام التي ذكرناها، يُضاف إلى المجموعة «أرض لانسان» (2012) وهو بمثابة لقاء أخير مع غسان تويني قبل رحيله، وفيلماه الروائيان «بوسطة» و«تحت القصف» (2007)




سيرة بصرية

خلال مقابلات عدّة، أعلن فيليب عرقتنجي أن فكرة فيلمه الجديد «ميراث» أتت من سؤال ابنته عن سبب تركهم لبنان. عندها ارتأى المخرج اللبناني الذي يملك في رصيده ما يقارب 40 فيلماً تسجيلياً، أن يروي سيرته الذاتية وسيرة عائلته بالتوازي مع بعض الأحداث التاريخية على مدى قرن (منذ 1913 حتى 2013). الفيلم الذي انطلقت فكرته من سؤال أحد أفراد العائلة، سيروي سيرتها التي شهدت هجرات متكررة، ومنيت بحوادث مشابهة: الباخرة الفرنسية التي هاجر فيليب عرقتنجي على متنها مع عائلته في 2006، كانت جدته قد هاجرت على متنها عام 1920. وفيما قرر عرقتنجي العيش في فرنسا في عمر الـ 42 عاماً، قرر والده القدوم من الشام للعيش في لبنان بالعمر ذاته أيضاً. هذه المصادفات ربّما هي التي عززت فكرة إنجاز سيرة بصرية لهذه العائلة.