ربما هو واحد من القلة في لبنان الذي يمكن القول عنهم بأنهم «متفرّغون» كليةً لفنّهم الخاص. وخاص هنا كلمةٌ قليلة لوصف «الإنشاد الصوفي»، إذ لا يمكن حصر ما يؤديه المنشد والمؤدي «الشيخ» أحمد حويلي. الشيخ هنا لأنّه درس العلوم الدينية قرابة 14 عاماً، أتبعها بدراسة أكاديمية مقارباً الفكرة نفسها، ناهيك بدراسته الموسيقية. إنه المنشد والشيخ أحمد حويلي، الذي يعتبر بأنَّ «العشق هو رأسماله الأوّل وقبل أي شيء»، فكل شيء هو حالةٌ عشقية، حتى في انتقاله من مرحلة قراءة العزاء، وصولاً إلى بحثه عن شخصيته الفنية ثم مرحلة الإنشاد الصوفي الحالي مع آلاتٍ موسيقية وعازفين على مسارح خارج الإطار الديني/ العاشورائي الذي اعتاد عليه في بداياته. هل كان ذلك «انتقالاً» كبيراً بالنسبة إليه؟ «لم أعتبرها نقلة، فالقضية نفسها كانت وما زالت موجودة. مثلاً يأتي عرضي لموضوع كربلاء من المبدأ العشقي نفسه. كل شخص قتل في سبيل قضية عشقية أتحمل مسؤولية تجاهه ومسؤولية نقل تراثه من خلال الصوت والموسيقى. كلما أقدم أمسية في لبنان والخارج، أقدم قضية كربلاء؛ ليس من مبدأ طائفي أو مذهبي أو حتى ديني، بل من منطلق أنه شخص قتل من أجل العشق. قضيته واضحة هي قضية عشقية بلا شك. إذا أردنا الحديث عنها من المبدأ السياسي، فهو صراع الحق مع الباطل. من مبدأ روحي، هو كان عاشقاً حقيقياً. لذلك قال: «فلو قطعتني في الحب إرباً إرباً، لما مال الفؤاد الى سواك». ويكمل: «كما لا أعتبر ما قمت به نقلة، بل اتساعاً. إنها توسع في الأفق كي لا تنحصر القضية بشخص أو عنوان». ماذا عن بداياته مع الصوفية إذاً؟ يجيب: «حبي للصوفية كان منذ أن كنت في عمر 13 عاماً. تعرفت إلى استاذ رحمة الله عليه وأساتذتي كثر قبل دراستها أكاديمياً». هنا يحضر السؤال: لماذا لا يذكر أسماء الأساتذة في هذا المجال؟ يجيبنا: «هو شرط في عالم المعنى والباطن (يقصد الصوفية) ألا تذكر أسماء المعلمين لأنهم يعتبرون أنهم لم يأتوا الى الدنيا كي يكون لهم ظهور. مثلاً شمس التبريزي من شدة خجله، رفض أن يكون له اسم على قبره. يخجل أن يكون له اثر في زمان الوجود يدل عليه أمام الله». يشير حويلي إلى أنه أتبع تلك المرحلة بدراسة الصوفية أكاديمياً في «الجامعة اليسوعية» لأنّ «ابن عربي وضع أسساً أكاديمية للدراسة الفلسفية الصوفية. هناك نظام موجود في جامعات عديدة وبالأخص الجامعة اليسوعية التي تخرّجت منها. بعد دراسة الفلسفة، اتجهت الى مقارنة الأديان ثم عالم التصوف ليكون هذا مجالي الذي نلت رسالة ماجستير فيه». ماذا عن الموسيقى؟ هل جاء الموضوع حباً بها، أم أنها دراسة هي الأخرى؟ «موسيقياً، تعرّفت إلى المبادئ الموسيقية المتعلقة بالموضوع الى جانب دراستي لها طبعاً، لكنها لا تشبهني. مررت في المجال الغنائي/ الإنشادي الإنساني والأرض والوطن. حتى بدأت تجربتي الإنشادية الصوفية منذ 10 سنوات، مع ابن الفارض ورابعة العدوية وسواهما. لاقت التجربة استحساناً بشكل سريع وتوالت الأمسيات في لبنان وخارجه». يشير حويلي إلى أنَّ الكلمات الصوفية والأناشيد تصل إلى الناس بسهولة «بسبب حاجتهم الروحية واستغراقهم في العالم المادي بشكل مخيف»، مؤكداً في الوقت عينه أنَّ «التصوف في لبنان لم يصل بعد بشكل عميق إلى الناس. هم يعرفونه كموضة عبر كتاب اليف شفاق «قواعد العشق الاربعون» ورقصة التنورة للأسف. أحببت أن يكون الغوص في هذا العالم لأظهر أنّ العشق وحده يطهر ولم يكن أمامي من طريقة سوى أن أغنيه كي أظهره. لا سبيل آخر لتعبر عنه سوى الموسيقى ولغة عشقية كتبت بالحد الأدنى ما بين عامي 800 الى 1100 سنة من قبل سلاطين عشق لا يعرفهم أحد. حتى على المستوى الشعري، نحن لا نعرف سوى ابن الفارض والسهروردي. هناك كثيرون غيرهم كالبسطامي وهو من الاشخاص الذين كان لهم قيمتهم في عالم المعنى».
هنا يعود الحديث إلى إشكالية الأنظمة الحاكمة مع «العشاق» كما يحلو لحويلي تسميتهم، إذ إن أغلب شعراء الصوفية وممارسيها المشهورين قتلتهم الأنظمة الحاكمة إبان وقتهم: «لدى العشاق مشكلتان. المشكلة الاولى هي عدم فهم الأنظمة هذه للمضمون مثل مضمون الحلاج. هؤلاء ـ أي العشاق- كانوا في غربة حقيقية. يسأل الإمام الحسين عن معنى الغربة الحقيقية، فيقول لهم «الغربة الحقيقية هي أن تتكلم ولا أحد يفهم كلامك». عندما قتل الحلاج، كان يقول لهم: «إن الله في جبتي» بقدر «ما ذاب وجوده وانفنى» بالتعبير الاسلامي أو «اتحد مع الذات الإلهية» كما في التعبير المسيحي اللاهوتي؛ هو صار منصهراً في الحقيقة الإلهية واصبح الله في داخله وكل الجمال الذي تراه هو الله، فاعتُبر كلامه كفراً. وكما تلاحظ في كل اشعارهم، تكلموا مع الله كأنثى لأنهم لم يكن باستطاعتهم الكلام بشكل مباشر، فبطّنوا اللغة. ولا شك في أنّ المرأة بالنسبة إلى الصوفي، قضية جدلية، فهي تعني له الصفات الاساسية لله، وهي المعبر والجسر الاساسي الوطيد». ويضيف: «ابن عربي يعتبر أنّ لله صفات جمال وصفات جلال وقدرة والى آخره. أعلى صفة لله هي صفة الجمال. اذا أردنا الحديث عن صفات الجمال، فأجمل صفة موجودة على الاطلاق هي المرأة، فالله قد اختصر الصفات الجمالية فيها. غوصك في الحقيقة تجاهها هو غوصك تجاه المعشوق الأوحد ليس تجاه الانثى كأنثى».
المرأة بالنسبة إلى الصوفي تعني الصفات الأساسية للّه


وبالعودة إلى النقطة الأولى، يؤكد المنشد الصوفي: «المسألة الأخرى هي مسألة سياسية. نقاط الخلاف التي مرت سابقاً هي أنّ التصوف لم يكن معروفاً. لقد بدأ كتجربة فردية عندما بدأ ينتشر عام 220 هجري. النظام كان مختلفاً جداً عنه، والحكم في العصر العباسي كان قاسياً. لذا، فأي مختلف أو مخالف كان يعرّض نفسه للمحاكمة والقتل. من أسهل الأمور آنذاك اتهام الآخر بالكفر». هنا يقترب حويلي من تجربته الذاتية: «أنا اتهمت بهذا كله، واتهمت بأني تركت عالمي واتجهت الى عالم آخر. بمفهوم أهل الدنيا، المرتد هو الشخص غير الممارس للطقوس العامة. أنا مثلاً، نظرتي للطقوس نظرة مختلفة، فمفهوم الصوم عندي مختلف، ومفهوم الصلاة مختلف والحقيقة مختلفة. كل شخص يتعدى النظر الى الشكل الظاهري، هو متهم. حتى الموسيقى، فالموسيقى هي نوع محرم، وقد دفعنا ثمن ذلك. لكن ذلك الحمدلله قد انتهى اليوم، لأنهم فهموا بأن هدفي ليس الاتجاه الى الفن المبتذل».
ولأن أمسية حويلي الرمضانية الليلة هي حول الحلاج فقط، لا بد من السؤال عن سبب اختياره. «الحلاج قضية جدلية فلسفية عند كل الفلاسفة والعشاق وحتى علماء الدين. هل الحلاج شطح أم لا. السبب الثاني أنه ظلم تاريخياً لغاية اليوم. انظر الى كل المتصوفين، لم يتم التحامل على أحد كما حدث مع الحلاج لأن رمزيته مستفزة؛ وأنا اخترته بكل صراحة لأستفز كل شخص متزمت، ولأقول له إنّ الحلاج لم يقصد الاهانة، بل فهمك الخاطئ هو الذي ظلمه. طالما لديّ صوت، سأجهد بانشاد قصيدته أو قصائده لأظهر لك ذوبانه في الذات الالهية». إذا ماذا عن اختيار «تقديمه» في شهر رمضان؟ «لأن الناس يتجهون في هذا الشهر الكريم إلى الابتهالات والأدعية والموشحات. انا كان لدي اختيار مختلف. هذه المرة، لم أحب أن تكون هناك فرقة موسيقية خلفي. أحببت أن تقتصر الأمسية عليّ وعلى عازف العود أسامة عبد الفتاح وراقص درويش في الخلف. سنقدّم تجربة جريئة من حيث الدفء؛ وستكون على 50 دقيقة إلى ساعة كحد أقصى». ويختم ضاحكاً: «الا اذا كان الجمهور متحمّساً وطلب المزيد».

* أمسية أحمد حويلي «صوته وعوده والحلاج ثالثهما»: 21:30 مساء اليوم ـــــ «مسرح الجامعة اليسوعية» (بيروت ـ طريق الشام) ـ للاستعلام: 01/218078 ـ 03/006329