يقدّم أكرم زعتري معرضاً فردياً في «صفير زملر» بعنوان «هذا اليوم عند العاشرة» أنجزت أعماله خلال العقد الأخير وتنقل بين «بينالي البندقية»، و«دوكيومنتا ١٣» وغيرهما من المعارض والمتاحف. معرض مهم جداً في طريقة طرحه للواقع/ الوثائقي، وكيفية تشريع الباب على تساؤلات كثيرة عبر الخيال/ الروائي ضمن إطار خيارات الأفراد مقابل واقع الأوطان والصراعات والحروب. يطرح المعرض البيروتي الحالي عدداً من التساؤلات الصحيّة: كيف يمكن أن ننظر إلى الجريمة من خلال الاستثناء الذي يؤكّدها؟ هل من تفاعل ممكن بين فرد في موقع الضحيّة، وفرد في موقع الجلاد «يرفض» سياسة الجلاد ويدينها؟
تجرأ زعتري على مقاربة الحدود التي تفصله عن آفي مغربي أو هاغاي تمير، من دون أن يترك مكاناً للالتباس «التطبيعي» طالما إنّه لم يسامح الجلاد ولم يؤنسنه. بل إن معرضه الحالي يستعيد الجريمة كفكرة تأسيسيّة من صلب الكيان الإسرائيلي.
في كتابه «محادثة مع مخرج إسرائيلي مُتخيّل يُدعى آفي مغربي» (٢٠١٢)، يقول زعتري «تماماً كما يفكر السجين فى الحرية، ففي أوقات الحرب لا مفرّ من التفكير في السلام. لكننا نعلم أن من غير الممكن محو التاريخ. من غير الممكن الرجوع في الزمن لمحو الظلم، والعنف، والاحتلال، والحرب». بذلك يثبّت الواقع/ الوثائقي. أيضاً، يقدم زعتري في المعرض البيروتي فيديو «صيدا، ٦ حزيران/ يونيو ١٩٨٢» (٢٠٠٢ ــ ٢٠١٣) المؤلف من كولاج لصور فوتوغرافية توثّق قصف الطيران الإسرائيلي لتلال صيدا في أزمنة مختلفة. جمع الفنان الصور في فيديو واحد يعرض بشكل متواصل، مجسّداً استمرارية العدوان في حركة لا تنتهي. ويتضمّن المعرض صوراً فوتوغرافية كبيرة بالأبيض والأسود توثّق تحليق الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء لبنان. لكن في المقابل، يتابع زعتري في كتابه «ولهذا فلا يمكننا إلا أن نكون صوتين فرديين، مُتخيّلين لأننا لا نمثل أحداً أو ننوب عن أحد. والحقيقة أننا نسيء التمثيل والإنابة. نحن شخصيتان مُتخيلتان لأننا غير منسجمين مع الكيان الوطني لكلّ منا. صوتنا خيال الوطن، وليس بحقيقة الوطن». هنا يستدعي زعتري الفرد، والخيال، ليطرح عبرهما أسئلة تنتقل من الواقع/ الوثائقي لتصب في الخيال/ الروائي. أسئلة تستند إلى الماضي وتصبّ في المستقبل. بذلك، فإنّ معظم مواد معرض «هذا اليوم عند العاشرة» تطرح أسئلة ضمن رواية مستقبلية رغم أنها وقعت في الماضي وتتخذ شكل التوثيق. من هنا، يعيد زعتري قيمة الفرد إلى الواجهة، إيماناً منه بأنّ أفعال الأفراد وخياراتهم هي الوحيدة القادرة على إنتاج الأمل وتحقيق العدالة.
يمكن قراءة انتقال أعمال زعتري من اللقطة إلى «اللقطة/ اللقطة المقابلة» (Champ /Contrechamp)، لأن معنى الصورة لا يكتمل بعرض جهة واحدة من اللقطة. كذلك في اللقطة المقابلة، أصبح للإستثناء الإسرائيلي صوت في أعمال زعتري. مع آفي مغربي، أنتج كتاباً، ثم وجه فيلم «رسالة إلى طيار رافض» إلى الطيار الإسرائيلي هاغاي تمير الذي رفض قصف «ثانوية صيدا الرسمية للبنين» خلال الاجتياح الثاني للبنان.
في ذلك اليوم من صيف ١٩٨٢، قصفت طائرة حربية إسرائيلي ثانوية صيدا للبنين… لكن التفصيل الهامشي الذي بنى عليه أكرم رؤيته، والذي عرفه بالمصادفة، أنه قبل تفرغ طائرة العدوّ حمولتها بقليل، كان طيار آخر يدعى هاغاي تمير قد تلقّى الأمر بقصف الهدف المذكور، لكنّه شكّ أن الهدف مدرسة أو مستشفى بسبب همدسة المبنى، فرمى بحمولته الصاروخية في البحر وعاد إلى قاعدته. رغم هذا الموقف الانساني فإن المدرسة هُدمت في النهاية، وواصلت إسرائيل أفعالها الإجرامية. ما يلتقطه زعتري في «رسالة إلى طيار رافض»، أنّه، ضمن تلك المنظومة القائمة على العنف والعدوانيّة، هناك فرد قرر رفض قصف المدرسة. فرد اختار العدالة، كما قال ألبير كامو في «رسائل إلى صديق ألماني» (عدوّه خلال الحرب العالمية الثانية): «بالمختصر، أنت اخترت الظلم واتخذت جانب الآلهة. أنا، في المقابل، اخترت العدالة كي أبقى مخلصاً إلى العالم». في مقابل فيديو «رسالة إلى طيار رافض»، يعرض زعتري عمل آخر بعنوان «صيدا، ٦ حزيران ١٩٨٢»: اللقطة واللقطة المقابلة. عندما قُدّم العمل للمرة الأولى في «بينالي البندقية» (٢٠١٣) ممثلاً لبنان، وضع زعتري كرسياً واحداً فارغاً للطيار (الرافض) أمام «صيدا، ٦ حزيران ١٩٨٢»، بحيث يدير هذا الأخير إذا جلس ظهره للعمل الآخر، أي الرسالة الموجّهة إليه. وكان أن حضر هاغاي تمير فعلاً إلى المعرض، وجلس ليشاهد القصف الإسرائيلي لتلال صيدا. أما في صالة «صفير زملر» في بيروت، فقد استبدل زعتري كرسي الطيار بعدد من الكراسي في مواجهة «رسالة إلى طيار رافض» داعياً جمهور المعرض إلى إكمال اللقطة المقابلة للطيار الإسرائيلي.
من شائعة (روائي) سمعها خلال طفولته، ثم اكتشف قبل سنوات قليلة أنّها حقيقة (وثائقي)، أعاد زعتري تحويل الواقعة إلى رسالة مزج فيها الوثائقي بالرواية. في الرواية يكمن الخيال الذي لا يمكن أن ينتجه سوى الأفراد. خيال يحاول البحث عن قراءة مختلفة للصراع. قراءة لا تلغي الحقائق، لكنّها تبحث عن بصيص أمل ـــ ولو شحيح ــــ في المستقبل.
أما في فيلم «في هذا المنزل»، فننتقل إلى رحلة بحث عن «رسالة» من نوع آخر… رسالة كتبها فرد هو علي حشيشو، من مجموعة محاربين ضمن «الحزب الديموقراطي الشعبي» كانوا قد احتلوا منزلاً في عين المير (جنوب لبنان) لخمس سنوات. قبل مغادرتهم البيت عام ١٩٩١ بعد اتفاق الطائف، طمر حشيشو رسالة في حديقة المنزل داخل بيت قذيفة مدفعيّة، علّ أصحاب البيت المهجّرين يجدونها بعد عودتهم. في الرسالة، قدّم كاتب الرسالة نفسه، وشكر أهل البيت وأهل عين المير على احتضانهم، مطمئناً إياهم بأنهم حاولوا قدر المستطاع المحافظة على المنزل وحديقته وشجر الزيتون فيها. هنا أيضاً فرد يبحث عن العدالة.
في غرفة أخرى، عرض زعتري ثلاث مجموعات من الصور. المجموعة الأولى عبارة عن أربع صور فوتوغرافية لمشروع «مصلحة التعمير» الذي صممه وشيده المخطط والمهندس الفرنسي ميشال إيكوشار في صيدا في حيّ الدكرمان، قرب مخيم عين الحلوة حالياً، كأحد أول مشاريع المساكن الشعبية في لبنان بين ١٩٥٧ و١٩٦٧. إيكوشار كان وراء مشاريع تخطيط مدني لمدن بيروت طرابلس وصيدا، وكانت مخططاته ومشاريعه دليلاً على انطلاق الحداثة المعمارية في لبنان. وتجدر الاشارة إلى أن «ثانوية صيدا الرسمية للبنين» التي قصفهتها اسرائيل. كانت جزءاً من مشاريع «مصلحة التعمير». المجموعة الثانية كناية عن خمس صور لطائرات حربية إسرائيلية تعبر سماء لبنان. والمجموعة الثالثة ست صور لهاغاي تمير غير معروضة، لكن هناك وصف تفصيلي مذكور لكل واحدة تحت الفراغ على الحائط. تغييب صور الطيار الرافض ضمن ثلاثية الإعمار وآلات التدمير ورفض المشاركة في الجريمة، يفتح مجالاً لملء فراغ الصور بهويات أفراد كثر يمكنهم أن يتخذوا مكان ذاك الطيار.
مرّ على نكبة فلسطين 65 عاماً، وتمت مقاربة الصراع ضد الاحتلال الاسرائيلي فنياً بطرق وأساليب مختلفة. اليوم، يعيد زعتري تذكيرنا بأنّه حتى في زمن الحرب، هناك دائماً خيارات يمكن للفرد أن يتخذها.

*«هذا اليوم عند العاشرة»: حتى 22 آذار (مارس) ــ «صفير زملر» (الكرنتينا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550




zoom | كبسولة الزمن

«كبسولة الزمن» (الصورة) مشروع استوحاه أكرم زعتري من حادثة صبّ الآثار بالاسمنت في المتحف الوطني خلال الحرب الأهلية لحمايتها من القصف. هكذا، قرر صبّ صناديق خشبية تحتوي على أعمال فنية بالباطون ودفنها تحت الأرض، فلا يبقى ظاهراً منها سوى قضبان حديدية فوق الأرض. فعل يأتي كمساءلة عكسية لعملية البحث عن الأعمال الفنية، وحفظها وعرضها، ومساءلة للعمل المؤسساتي، وخصوصاً بعدما ترك زعتري «المؤسسة العربية للصورة» حيث أمضى ١٥ عاماً من حفظ وتوثيق الصور الفوتوغرافية.
في المعرض الحالي، يقدم زعتري عيّنات عن «كبسولة الزمن» التي تظهر بعضها فوق الأرض، وأخرى مطمورة، إضافة إلى «مخططات الكبسولة» على خمس صفحات، ضمن غرفة كبيرة تتوزع على جدرانها مجسمات لطائرات ورقية مصنوعة من مادة البولياميد. في غرفة ثانية، يعرض فيلم وثائقي (٢٠١٢) عن عملية صنع الكبسولة وصبّها في حديقة في كاسيل في ألمانيا ضمن معرض «دوكيومنتا ١٣». وفي قبالته يعرض فيديو «عين عار» (٢٠٠٢) الذي يظهر عملية النبش عن رسالة علي حشيشو. نبش وطمر، اللقطة واللقطة المقابلة. بين الشاشتين، يُعرض في الوسط على الأرض تجهيز «هيكل كبسولة الزمن» (٢٠١٣) المؤلف من القضبان المعدنية المؤلفة للكبسولة