في زمن تبدو فيه قصيدة التفعيلة مهدّدة بالانقراض، وفي ظل نُدرة من يُقبلون على كتابتها من الشعراء الجدد، يبدو ديوان «كيف ستنجو أيها العابر» (دار النهضة) لربيع شلهوب أشبه بالمفاجأة التي تستحق الترحيب في مواجهة النثرية السائدة التي تحتل الواقع الشعري. ترحيبٌ نُثني فيه على طموحات الشاعر اللبناني في إشهار هوية إيقاعية ولغوية مختلفة، ونمتدح هذه الجديّة التي يمزج صاحبها بين رؤية متفلسفة ونبرة صارمة. هناك إشارات عديدة تُثبت أن ما نقرأه يتحرك فوق طبقات من الأفكار والتأملات العميقة، حيث يقسّم الشاعر الديوان إلى خمسة عناوين تفصل بين مقاطع مرقّمة تؤلف نصاً شعرياً طويلاً، ولكن المشكلة أن ما يُفاجئنا وما نمتدحه يشكوان من إشكاليات تتعلق بالتفعيلة نفسها التي لا تزال محكومة بسلبيات وعوائق تخلّص شعراء التفعيلة من معظمها. هكذا، يتراءى لنا أن الشاعر لا يكتب نصاً إيقاعياً معاصراً إلى جوار قصائد النثر التي تُكتب هنا والآن. لنقرأ هذا المقطع مثلاً: «شبيهي هدوءٌ يطولْ/ يرى وأحاولُ حين يرى أن أقولْ/ فضاءٌ بكامل أنهاره/ سوف يرجع قطرة لغزٍ صغيرهْ/ الجهاتُ وقوعُ عيونٍ/ على جملةٍ غير واضحة في كتاب الضرورهْ/ الهويةُ هاويةٌ/ والبداياتُ خابيةٌ سمَّمتها ظنونٌ وثيرهْ/ بطيئاً يعلّم أهدابه كيف تسبحُ/ بين بحيرات هذا المدى/ ومضيئاً يلوّنُ من قادمِ الليل/ حرّاءَ قلبي وطورَهْ».

الاختلاف هنا مصنوع من العودة إلى ماضي التفعيلة وليس من الانغماس في حاضرها. يظهر ذلك بوضوح في اللغة المتعالية على الواقع اليومي، وفي الرصانة المعجمية، والجملة الجَزِلة، وفي العوالم الكليّة التي تصنعها هذه اللغة التي تتجاهل الجزئيات والتفاصيل الملموسة على لصالح الإنشاد والفصاحة. لعل ثيمة الديوان الأساسية القائمة على فكرة إعادة الخلق، والشخصنة المتفاقمة التي تحوّل الشاعر من فردٍ هشٍّ و«عابر»، بحسب العنوان، إلى قائدٍ ونبيّ وناطقٍ باسم الجموع، تستدعيان هذه اللغة الكلية والمتعالية، ولكن ذلك يُعيد الديوان نفسه إلى زمنٍ كانت فيه قصيدة التفعيلة تفتقد المرونة الكافية، وتفرض على القارئ قراءة طَرَبيّة موزونة تمنعه من الوصول إلى هذا المعنى.
لقد تجزّأت الإيقاعات في تجارب التفعيلة العربية الجيدة، وحاول شعراؤها استثمار النثر لخلق تصدّعات وشقوق تخفّف من «إرهاب» الوزن، وتُعفي اللغة من التحليق. أحياناً نجد شيئاً من الليونة الإيقاعية في بعض المقاطع والسطور، فنقرأ «أنا قصةٌ مات أبطالها أنا مذبحةٌ هادئة/ وقد كان لي موعدٌ ذاتَ طفلٍ/ مع السيد المستريح على قمةٍ/ تختفي لاحقاً من عيوني/ وإني .. وقد بلغ الرعب ذروته في الطريق إليّا/ انتهبتُ بأني أهنتُ يديّا/ على ناقةٍ لا تدمّرها سورةٌ طارئه». باستثناء السطر الأخير الذي ليس ليس وظيفة سوى مفردة «طارئه» التي تصنع إيقاعاً تعسفياً وتزيينياً مع مفردة «هادئه» في نهاية السطر الأول، فإن المعنى واضحٌ ومتباطئٌ على الأقل. أما التعسف والتزيين فهما موجودان في أغلب القوافي التي تقود الجملة بدلاً من أن تنقاد لها. نقرأ ذلك، ونعيد امتداح التجربة التي نأمل أن تلين فيها القوافي في الدواوين القادمة، وأن تذوب الإيقاعات داخل جسم القصيدة، وتسير مع معناها بالسرعة ذاتها.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza