كثيرون يتحدثون عن إيران ونظام الجمهورية الإسلامية من دون إدراك التفاصيل الوافية عن تاريخ هذا البلد السياسي منذ القرن العشرين وأحزابه. الباحث الإيراني شاكر كسرائي قدّم إنجازاً بتحقيقه كتاباً مرجعياً بعنوان «إيران ـــ الأحزاب والشخصيات السياسية (1890 ـــ 2013)» (دار الريّس). حاول المؤلف أن يكون موضوعياً ونجح، لكن القارئ يشعر بميله نحو الجهات الليبرالية المنفتحة في النظام. يقول في المقدمة: «الرئيس (حسن) روحاني عندما طرح شعار الاعتدال، أدرك جيداً أن الإيرانيين لا يرغبون في التصرفات المتشددة التي اتبعها الرئيس (السابق) محمود أحمدي نجاد التي أوصلت إيران الى طريق مسدود بفرض مختلف العقوبات عليه». ويضيف إنّ «العمل الحزبي في إيران لم ينمُ كما هي الحال بالنسبة إلى الدول الأوروبية»، مشيراً الى دراسات حدّدت أن «التنظيم القبلي في المجتمع الإيراني له دور في عدم تطوّر الأحزاب، كما أنّ النظرة الاجتماعية للإيرانيين ترجّح القرارات الفردية على القرارات الجماعية، بالإضافة الى محدودية دور الطبقة المتوسطة في إيران».

ويؤكد أنّ «دعم القوى الأجنبية لبعض الأحزاب (ما قبل الثورة الإسلامية) جعلها معروفة من قبل المواطنين على أنّها ترتبط بالخارج وتموَّل من الخارج». أول ما أثّر على نشوء الأحزاب في إيران، حسب المؤلف، كان الاتصال بين الإيرانيين وأوروبا وتغلغل النفوذ الأوروبي الى إيران في القرن التاسع عشر، ما أدى الى نشوء طبقة من المثقفين الإيرانيين ممن سافروا الى أوروبا وتفاعلوا مع الحياة وترجموا الأنظمة الثقافية الأوروبية والأفكار الجديدة والقيم الحديثة الى الفارسية. ضمت هذه الطبقة الأشراف، والأمراء، وموظفي الدولة، وضباط الجيش، والتجار ورجال الدين. وكان القاسم المشترك بينهم الدعوة الى التغيير في الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا. كان هؤلاء يرون أنّ إقامة حكومة ملكية دستورية ستقضي على الملكية الرجعية، وأن التوجهات العلمانية ستضعف المحافظين، وأن الخيارات الوطنية ستهزم الإمبريالية.
ويضيف: «هؤلاء المثقفون كانوا يغيّرون أساليبهم تبعاً للظروف، فتارة يتحالفون مع الشاه (في القرن الماضي) ضد علماء الدين، وطوراً مع علماء الدين ضد الشاه والإمبريالية. وقد لعب جمال الدين الأفغاني دوراً كبيراً في القرن 19 في الحياة السياسية في إيران». يتحدث بإسهاب عن دور الأفغاني (1838 ـ 1897)، خالصاً إلى أنّ آراءه التقدمية لاقت استحسان الإصلاحيين ومعارضة المحافظين، إذ دعا إلى إصلاحات دينية واستخدام العلوم والتكنولوجيا الحديثة وتطبيقها مع تعاليم القرآن، وبالتالي، فقد أسس نشوء الأحزاب الإصلاحية والثورية في إيران والمنطقة في القرن العشرين بحسب المؤلف.
يورد كسرائي تفاصيل عن بداية التحركات الثورية والإضرابات العمالية في إيران، وخصوصاً في عهد مظفر الدين شاه من 1896 إلى 1907 الذي تبع سلفه ناصر الدين شاه في فرض الضرائب على التجار وخفض الرواتب وفتح أبواب إيران أمام المستثمرين من الخارج ومنح امتياز اكتشاف واستخراج النفط الى شركة «دراسي» البريطانية، وحصل على قروض لشراء السلاح وقروض شخصية من شركات فرنسية وروسية وبريطانية وأوروبية. أدّى توجهه هذا الى نشوء منظمات شبه سرية لمعارضة النظام. يضيف المؤلف إنّه بعد نجاح الثورة الشيوعية في روسيا، تدهورت الأوضاع في إيران، واحتل الجيش الروسي الأحمر شمال البلاد، والجيش البريطاني جنوبها وعجزت الحكومة الإيرانية المركزية عن إدارة الدولة، فتهيأت الظروف لظهور عسكري يتولى زمام السلطة في طهران. كان هذا العسكري هو العقيد رضا خان الذي لقّب نفسه لاحقاً بـ«البهلوي». أول ما فعله كان مواجهة الأحزاب الإيرانية.
بدأ حكمه الذي دام 16 عاماً معتمداً على الجيش والبيروقراطية الحكومية، وروّض مجلس الشورى وجعله أداة بيده. وكانت الأحزاب الناشطة في عهده تشبه «الأحزاب الفاشية الأوروبية في تلك الحقبة». قمع رضا خان الحزب الشيوعي والشيوعيين الذين اعتبروه عميلاً للإمبريالية، وحظرت حكومته الاتحادات العمالية واعتقلت قادتها.
رغم هذا القمع، بقيت أحزاب ناشطة على الساحة؛ بينها حزب «تودة» الشيوعي و«حزب إيران» الذي كان يدعم سياسات القائد الإيراني الوطني محمد مصدق. دافع «حزب إيران» عن حركة مصدّق لتأميم النفط والتحق بـ«الجبهة الوطنية الإيرانية» ودخل بعض أفراده في حكومة مصدق واعتُقل عدد من أعضاء هذا الحزب بعد الانقلاب العسكري الذي قادته أميركا وبريطانيا ضد مصدق عام 1953.
بعد انتصار الثورة الإسلامية، شُكلت حكومة مؤقتة برئاسة المهندس مهدي بازركان وهو من «حركة تحرير إيران». بيد أن بازركان استقال بعد احتلال السفارة الأميركية في طهران. وكان شاه إيران الأخير قد حلّ الأحزاب الإيرانية عام 1975 وأسس حزب «رستاخير إيران»، معلناً أنّ إيران سيكون لها حزب واحد. أثارت خطوات هذا الحزب سخط علماء الدين، وخصوصاً قراراته بتشجيع الفتيات على نزع الحجاب، ومنع طبع بعض الكتب الدينية وزيادة سن الزواج. واعتبر الإمام الخميني، الذي كان مقيماً في النجف آنذاك، أنّ هذا الحزب تجاهل الدستور الإيراني وحاول القضاء على الإسلام، فاعتقل النظام جميع علماء الدين الذين كانوا مرتبطين بالإمام الخميني وأصبحوا بعد الثورة قادة في النظام الجديد.
يتناول كسرائي الأحزاب السياسية بعد الثورة، مشيراً الى «حزب جمهوري إسلامي» الذي تأسس عام 1979 على يدي آية الله الهاشمي رفسنجاني، والمرشد الأعلى الحالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، وأمينه العام محمد حسين بهشتي الذي قتل عام 1981 في انفجار أودى بحياته وبحياة 74 من قادة الحزب.
لاحقاً، انتخب علي خامنئي ثالث أمين عام للحزب، ثم رئيساً للجمهورية. وقد حلّ الحزب بعدما زالت الأخطار عن الثورة، وفق ما أورد الكاتب على لسان رفسنجاني.
يتحدث الكاتب عن مجموعات سياسية بارزة ظهرت على الساحة بعد حلّ «حزب جمهوري إسلامي»؛ وبينها «المجموعات الأصولية» و«أنصار حزب الله» و«رابطة علماء الدين المناضلين» التي كان من أبرز أعضائها رئيس الجمهورية الحالي حسن روحاني، والهاشمي رفسنجاني، و«الجبهة المتحدة للأصوليين» و«الأحزاب الإصلاحية» التي نشطت في فترتي رئاسة محمد خاتمي، وأحدها «الحزب الإصلاحي» الذي كان بقيادة شقيقه محمد رضا خاتمي. وتطرّق الكاتب أيضاً الى أحزاب الوسط التي تعتمد السياسات الواقعية والبراغماتية؛ وأبرز قادتها الهاشمي رفسنجاني، علماً بأنّه خلال رئاسة رفسنجاني للجمهورية، أُعيدت العلاقات الإيرانية مع السعودية والدول العربية الأخرى وأوروبا، وسعت الحكومة الإيرانية الى الخروج من عزلتها السياسية والاقتصادية آنذاك.
الخلاصة أنّ هذا الكتاب الغني بالمعلومات يسهم أيضاً في توقّع ما يمكن حدوثه في المستقبل القريب والبعيد في علاقات الجمهورية الإسلامية الإيرانية بجيرانها وبالعالم.