لم تستطع قناة «الحرّة» التي تأسّست عام 2004 من أن تحجز مكاناً لنفسها بين زميلاتها، بل كانت تعيش وحدها على الهامش. المحطة المموّلة مباشرة من الكونغرس الأميركي وذات المكاتب الموزّعة على الدول العربية (بيروت، القاهرة، القدس...) تعيش اليوم صراعاً في كواليسها: صراع على تحديد هويتها ومعرفة الأسباب التي أدّت إلى فشلها. المحطة التي تُعَدّ الذراع الإعلامية للسياسة الأميركية في المنطقة، كانت انطلاقتها بطيئة، وما لبثت أن بدأت بالتراجع، لتصل أخيراً إلى مفترق طرق يهدّد وجودها برمته. في هذا السياق، لوحظ غياب تميّز «الحرّة» في تغطية الأحداث السياسية في الدول العربية، آخرها الانتخابات النيابية العراقية واللبنانية خلال الشهر الفائت. مع العلم أن الحدث العراقي كان موضوعاً على رأس اهتمامات السياسة الأميركية، لكن تغطيته على الشاشة جاءت باهتة. وترافق ذلك مع تعديلات في برمجة الشاشة، وبدأت هنا علامات الاستفهام حول التطوّرات الحاصلة داخل القناة. إذ أعلن العام الماضي أن الكونغرس قرّر تقليص ميزانية «الحرّة»، ثم تبعت ذلك خطوات إدارية عدّة، آخرها تعيين الكوبي ألبيرتو فرنانديز (1958) عام 2017 رئيساً لـ «شبكة الشرق الأوسط للإرسال» (MBN/ التي تضمّ «الحرّة» و«راديو سوا»)، تلاه انضمام نارت بوران إلى الشاشة حديثاً وتبوئه منصب نائب المدير العام ومدير المحتوى. علماً بأنّ بوران كان الرئيس التنفيذي لقناة «سكاي نيوز عربية» طوال السنوات السبع الأخيرة.
اعلن نارت بوران عن «ترشيد الإنفاق وإيجاد هوية «الحرة» وإعادة ترميمها»()

عند تولي ألبيرتو فرنانديز دفة «الحرة»، وهو المحنّك والمتخصّص في قضايا الشرق الأوسط، اعترف أمام موظفيه بأنّ القناة «تفتقر إلى هوية محدّدة، وبأن لا نكهة ولا طعم لها». وأوضح أن الشاشة يجب أن تكون «ترامبية» (نسبة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب) تتبع قرارات الرئيس مباشرةً. وحاول فرنانديز خلال عمله أن يصوّب الهدف الإعلامي للقناة، وشهد عهده صرف بعض الموظفين وتقليص ميزانيات العديد من البرامج، ويُحكى أنه كان راعي الاتفاق بين بوران و«الحرّة». والأخير ـ كما ذكرنا آنفاً ـ كان يشغل منصب الرئيس التنفيذي في شبكة «سكاي نيوز عربية»، حيث عمل فيها نحو سبع سنوات. قبل نهاية العام الماضي، استقال بوران من مركزه، لكنه لم يتبوّأ المنصب الجديد مباشرةً في «الحرة»، إلا بعد أشهر على استقالته، أي مع بداية العام الحالي.
فور التعيين، بدأ الكلام عن مجموعة خطط جديدة من المتوقّع تنفيذها في أيلول (سبتمبر) الماضي. إذ أعلن الإعلامي الأردني اتخاذ خطوة ترمي إلى «ترشيد الإنفاق وإيجاد هوية «الحرة» وإعادة ترميمها». عناوين عريضة يحملها بوران معه، وتشبه إلى حدّ بعيد العناوين التي عُيّن من أجلها ألبيرتو. في هذا الإطار، يشير مصدر من «الحرّة» بواشنطن خلال حديث لـ«الأخبار» إلى أن التغييرات في القناة ستكون مفاجئة وتشمل مكاتب بيروت والقاهرة والقدس ودبي. أولى تلك الخطوات إخضاع أكثرية الموظّفين لامتحان تقييمي في أوائل الخريف المقبل، وعلى أساسه سيجري إمّا التعاقد معهم مجدداً أو صرفهم، مع العلم أنهم يعملون في القناة منذ افتتاحها، أي منذ أكثر من 14 عاماً. وقد تبلّغت غالبية الموظفين خطوة الامتحان التقييمي، على أن تُفتح صفحة جديدة مع المقبولين، ويُستغنى عن المرفوضين، لكن الموظفين لا يعرفون كيف ستكون عملية التقييم، وعلى أيّ أساس سيكون رفضهم. وسيترافق التقييم أيضاً مع توقيف بعض البرامج، أبرزها البرنامج الصباحي «اليوم» (من عدة مراسلين ومكاتب) الذي يغطّي نحو ثلاث ساعات مباشرة على الهواء، وهو أشبه بـ«ماغازين» تعرض أخباراً فنية وثقافية من مختلف الدول. في المقابل، يلفت المصدر من «الحرة» إلى أنّ مكتب دبي سيُعزَّز ليصبح مكتباً إقليمياً، وسيبثّ مباشرة على الهواء برنامجاً صباحياً جديداً ينطلق العمل فيه في أيلول (سبتمبر) المقبل فور تجميد «اليوم». المشروع التلفزيوني المنتظر سيكون اجتماعياً يُخاطب المرأة، ويشبه إلى حدّ بعيد الأعمال الصباحية التي تعرضها القنوات الخليجية.
تغييرات مفاجئة تشمل مكاتب بيروت والقاهرة والقدس ودبي

كذلك، سيتوقّف برنامج «هنّ» الذي تقدّمه ماتيلدا فرج الله (لم تبلّغ رسمياً بعد) ويطرح قضايا اجتماعية، ولم يعرف ما إذا كان يجري إعداد مشروع اجتماعي غيره. في سياق آخر، يقرّ المصدر من «الحرّة»، بأنّ القرارات المتعلّقة بالقناة هي سياسية - مادية، أيّ إن الكونغرس قرّر العام الماضي تقليص ميزانية المحطة. ومع التغييرات الجديدة في إدارتها، سيجري التقليص أكثر. حتى إنّ الحديث هو عن إنهاء عقود بالمئات في أيلول (سبتمبر) المقبل تماشياً مع عملية إعادة الهيكلة. هذه الإجراءات التقشفية ستترافق مع تعزيز عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي تسلّم الحكم في كانون الثاني (يناير) 2017، وانخراط الشاشة كلياً في عملية الترويج للعهد الجديد وقراراته. في المقابل، تُعَدّ القرارات الإدارية الجديدة بمثابة فرصة لـ «تصفية» بعض الموظفين الذين كانوا يؤيّدون هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية في الشتاء الماضي، واستبدال أشخاص بهم يدعمون ترامب. على الضفة الاخرى، لم تكن «الحرة» الضحية الوحيدة في «عاصفة القرارات الأميركية»، بل هناك أيضاً راديو «سوا» التابع لـ «شبكة الشرق الأوسط للإرسال». فقد بات مؤكداً أن الراديو سيُوقف بثّه في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، أي الفترة التي يُجدَّد فيها عقد الإذاعة ويُحدِّد الكونغرس ميزانية العام المقبل. الراديو الذي يعدّ تكملة لسياسة «الحرة»، لم يتمكّن من الوصول إلى المستمع العربي كما حصل مع إذاعات دولية. وكان الموظفون قد أُبلغوا في الشتاء الماضي بالاستعدادات لتوقيف الإذاعة التي انطلقت عام 2002، وكانت مهمّتها الترويج للسياسة الأميركية بين الشباب العرب. إذاً، «الحرّة» تعاني «أزمة وجود» على الساحة الإعلامية، ورغم المشاكل التي تعصف بالعالم العربي، إلا أنّها لم تتميّز في أيّ تغطية، ولم تستطع حتى «أن تخدم السياسة الأميركية كما يفترض بذراع إعلامية» كما يقول المصدر. فهل يكون مصير «الحرّة» مشابهاً لـ «سوا»، علماً بأنّ هذا مستبعد في الوقت الحالي؟