وصل الزوجان آن وبوب إلى بيروت عام 1973. الشهر غير معروف ولا عدد الأيام التي قضاها السائحان الأميركيان هنا. لم يبق من زيارتهما إلا صور فوتوغرافية توثّق رحلتهما على طريق تمتدّ من العاصمة اللبنانية إلى مدينة بعلبك. بعد حوالى أربعين سنة، وجد المصوّر البريطاني كريس كوكن المجموعة معروضة للبيع على موقع eBay. اشتراها وتواصل مع المصوّر اللبناني نويل نصر سنة 2016، ومعاً باشرا مشروعهما الفوتوغرافي The Distance is Always Other الذي يعرض في «غاليري آرت لاب» (الجميزة ــ بيروت) حتى 26 أيار (مايو). تقوم التجربة المشتركة على صور الزوجين المجهولين إلا من اسميهما.
صورتا بوب وآن لأعمدة معبد جوبيتر في بعلبك، التقطتا بكاميرا«ستيريو" عام 1973.

تقفى كوكن ونصر بكاميرتيهما الطريق التي سلكاها قبلهما من مطار بيروت، ثم «فندق فينيسيا»، وعاليه وصولاً إلى بعلبك. بحثاً عن الأمكنة المدينية والطبيعية التي أخذها آن وبوب بكاميرا ستيريو (تحوي عدستين) وتظهّر صورتين متطابقتين تقريباً بفارق زمني بسيط. نرى مشهداً من «فندق فينيسيا»، وقطيع مواشي في إحدى المناطق الجبلية، وسكة القطار القديمة والآثار الرومانية في بعلبك ورجل بالزي الفولكلوري اللبناني. لا تحوي الصور ما هو استثنائي بصرياً، إذ التقطها الزوجان بعين (إكزوتيكية أحياناً) تحاول استكشاف المكان، وتسعى لتوثيق المشهد اللبناني كأي لقطة سياحية أخرى. يمكن القول بأن الصور تكتسب أهميتها التوثيقية من «اللحظة» التاريخية التي كانت فيها السياحة اللبنانية مزدهرة ولو ظاهرياً قبيل وقوع الحرب الأهلية التي كانت بدورها لحظة فارقة في تغيّر المشهد المديني والأمكنة والعمارة. في المعرض، نرى ثمانية من صور آن وبوب معروضة بطريقة تخضع لتقنية عمل كاميرا الستيريو، إذ وضعت كل صورتين للمشهد نفسه داخل علبة ضوئية، إلى جانبها صور كوكن ونصر. اختار منسّق المعرض الفنان اللبناني عبد القادري الصناديق الضوئية، لوظيفة الضوء الأساسيّة في الكاميرا، ولتوق الزوجين للوصول إلى الشمس في مدينتها، بالإضافة إلى ضوء النهار الذي يحضر كعنصر بارز في صورهما. منحت هذه الصناديق الصور الأولى، بعداً زمنياً يفصلها عن لقطات كريس ونويل. تصطدم صور الفوتوغرافيين ببناء اسمنتي شاهق يغطي منظر البحر الذي كان قد بان أكثر اتساعاً في الصور الأولى، أو بالتغيرات التي كانت تنمو في المساحات طوال تلك العقود، تمحو معالم أو تضيف إليها وتشوّهها. تغيّرات صعّبت بالطبع مهمّة العثور على الزوايا نفسها التي التقطت منها الصور الأولى.
وضعت كل صورتين للمشهد نفسه داخل علبة ضوئية

قد تبدو الرحلة بذاتها ممتعة: التوقف في أمكنة استوقفت زوجين أميركيين لأسباب مجهولة أو متوقعة قبل أربعة عقود. إلى جانب طابعها المكاني، فإن رحلة المصوّرين ترافق تحوّل الصور الأولى من مجموعة عائلية متواضعة إلى وثائق بصرية عامّة، دونما قرار من الزوجين. التقط كل من كوكن ونصر صورته الخاصّة للمشهد السابق، في محاكاة للثنائية البصرية لكاميرا الستيريو. الفارق أنهما قاما بدمج لقطتيهما عبر الطباعة الرقمية. رغم أنهما التزما بالزاوية نفسها، إلا أن صورهما لا تنجو من الفروقات البصرية بسبب سنتمترات قليلة يفرضها طول الجسد ربّما. أحياناً تمنح إحدى اللقطتين انطباعاً أولياً بأنها ظل للأخرى كما في صورة قلعة بعلبك والآثار الرومانية التي لا تزال على حالها. بعض اللقطات تبدو متضاربة فوق بعضها وتحديداً في صورة لمسبح «فينيسيا» الذي بات رمزاً للانتعاش السياحي في جزء كبير من الأرشيف الفوتوغرافي لبيروت ما قبل الحرب الأهلية. وإن يلتزم المصوّران بخطى من اجتازا الطريق في السابق، إلا أنهما يبنيان صورهما على الوثائق البصرية للزوجين، لا على المشهد الحقيقي. إنهما يتبنيان وجهة نظرهما تماماً، لتنحصر إضافتهما (دمج الصور)، بتخريب وخلخلة مقصودين للمشهد الحالي كإشارة إلى عشوائية التغيرات وإلى ضبابية مستقبل الأمكنة في الريف والمدينة اللبنانيين، مقارنة بمشهد أكثر وضوحاً للماضي. لكن الصورة نفسها هي علاقتنا المضطربة مع العالم. علاقة مقصوصة ومجتزأة وقابلة للتعديل والاختزال. لذلك وإن عثر المصوران على الزوايا نفسها فإنهما لن يصلا، بكل الحالات، إلى ما رآه الزوجان في السابق، أكان بسبب التغيرات الملموسة التي طاولت المشهد خلال العقود الأربعة، أم بسبب السرديات التي كانت تسير بجانب الكاميرا وبقيت خارجة عن إرادتها. هكذا كانت المقاربة البصرية قد اكتملت واكتفت تماماً قبل تدخّل الفوتوغرافيين الذي لم يفعل شيئاً سوى تكرار الفكرة، وقول ما كان يمكن لعرض تلك الوثائق البصرية وحدها أن يقوله. إذ بدت كأنما تدور داخل حلقة قائمة على مقارنة بديهية، مقابل إمتاع بصري وسردي ظاهري تولاه التنسيق الفني للمعرض عبر رسم خريطة الرحلة على جدار الغاليري، وتسجيلات صوتية للمدينة الحالية، وألعاب فيو ماستر بلاستيكية تستحضر كاميرا الستيريو وتتيح للمتفرج رؤية صور الزوجين بالأبعاد الثلاثة. أما بقية المجموعة التي تصل إلى 27 صورة، فقد صدرت بالتزامن مع افتتاح المعرض، ضمن كتاب بالعنوان نفسه عن دار «دنقلا» (راجع الكادر)، صممه الفنان الغرافيكي الإيراني رضا عابديني، مرفقاً بنص «كان طيفاً يتحرّك في غبشٍ حُلُميّ بين الصور» للكاتب اللبناني فادي الطفيلي يستحضر فيه صديقه المصري الراحل هاني درويش عبر تأملاته في المساحات اللبنانية وصورها.

* • The Distance is Always Other: حتى 26 أيار (مايو) ــ «غاليري آرت لاب» (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: 03/244577



بتوقيع رضا عابديني
The Distance is Always Other هو الكتاب الأول الذي دشّنت به دار «دنقلا» تجربتها في بيروت. الدار التي افتتحها كل من الكاتبة والناشرة سارة شلبي والفنان التشكيلي عبد القادري، تحمل اسم مدينة نوبية قديمة مندثرة في السودان. يميزّ القادري مشروع الدار الجديدة عن دور النشر الفنية المتخصصة في نشر دراسات حول تجارب الفنانين وسيرهم. فكرة «دنقلا» تقوم على نشر كتب هي عبارة عن أعمال فنية قائمة بذاتها، تستخدم فيها أنواع طباعة مختلفة إلى جانب التركيز على التصاميم الغرافيكية التي يخرجها الفنان الإيراني رضا عابديني. ستدعو الدار كتاباً وفنانين عرباً لتقديم أفكارهم ومشاركاتهم حول ثيمات وقضايا معاصرة ضمن كتب محدودة النسخ.