هذا ما فعله الكاتب والصحافي العراقي علي حسين في كتابيه «في صحبة الكتب» (2017) و«دعونا نتفلسف: كيف استطاع 25 مفكراً تغيير حياتنا» (2018)، الصادرين عن «دار أثر» السعودية. حوّل الكاتب ولعه بالقراءة منذ عمر مبكر وعمله في مكتبة أخيه الاكبر سناً إلى مادة يعتاش منها، ليس مادياً فقط بل معنوياً وأدبياً أيضاً. الواضح أنّه كان محظوظاً بعائلة لم تنكر عليه هذا الولع المبكر بالقراءة، بل شجعته من خلال إقحامه في العمل في مكتبة أخيه. لم يحدث هذا مع آخرين تلقّوا ما تلقّوا من العقوبات في سبيل صرفهم عن الاهتمام بالقراءة، كما في حالة عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، أو ترك الشعر في حالة الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري.
بلغ من شدة تعلقه بالكتب أنّه جعلها علامة فارقة لهيئته، إذ تراه محاطاً بالكتب التي بلغ ما يملكه منها نحو 20 ألفاً تتوزع ما بين مكتبه في صحيفة «المدى» العراقية كرئيس تحرير تنفيذي للملحق الأسبوعي الصادر عنها ومدير تحريرها، وما يحتفظ به في بيته. يقرأ بمعدل 80-100 صفحة في اليوم بعد الانتهاء من عمله الذي يقوم على كثير من القراءة أصلاً. طوّع ولعه بالكتب لتقديم زوايا متنوعة في صفحته على فايسبوك حملت عناوين «صباح الكتب»، «مع الكتب»، «مساء الكتب».... يقدم في هذه الزوايا مقتطفات منتقاة من قبله. مقتطفات نالت إعجابه، يعبّر من خلالها عمّا يعتمل في صدره من مشاعر نقدية لحالة عامة يشعر بزخم المسؤولية إزاءها.
مع أنّه يصف نفسه بأنّه ليس «بباحث متخصّص في القراءة، أو خبير بشؤون الكتب والمكتبات»، في معرض تقديم كتابه «في صحبة الكتب»، الا إنّه ثروة لا تدانى عندما يسأل عن كتاب أو مصدر. يلاحظ أنّ الكتب التي حظيت باهتمامه متنوعة ومختلفة تتوزع من الروايات العالمية المعروفة لديستويفسكي وتولستوي وأورهان باموق إلى أعمدة الأدب العربي كما في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري و«الأيام» لطه حسين و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم. ويفرد للفلسفة حيّزاً واسعاً في كتاب «دعونا نتفلسف ...»، لينتقل بتؤدة من هيراقليطس، وسقراط، وديكارت، وشوبنهاور، وكانط، وهيغل، إلى كيركيغارد، وبرتراند رسل، وسبنسر، وفولتير، وأفلاطون، وألبير كامو، وسبينوزا وماركس وسارتر. يقرأ بحرية ودون تمييز. يسمح للكتاب بأنْ يخترقه بما يحمل من أفكار، من دون أن يضفي عليه شيئاً من عنده قد يشوّه رسالته بمنظوره، كما يستدل على ذلك من طريقته في عرض وتنظيم قراءاته المتعددة والمتنوعة.
إنّه يسلك سلوك القارئ المهني، ولكنّ هذا القارئ لا يتصرف بجمود ويباس، بل يسمح لعواطفه وأحاسيسه بتلمّس الفكرة ومتابعتها، ناقلاً إياها بحرارتها إلى القارئ الذي يقرأ منه وعنه. فهو ينقل عبرات ودموع بريجيت باردو عندما اتصلت بالمخرج الفرنسي روجيه فاديم لتنقل خبر وفاة بيكاسو. ويحكي عن التصادم الذي حدث بين ألبير كامو وسارتر، حتى لكأنّه صديق شخصي مشترك يقف على مسافة واحدة من كليهما وبالوفاء والحيادية والحميمية التي يتصف بها الصديق.
اللافت أنّ علي حسين لم يقرأ لكل هؤلاء الكتّاب العظام من غير العرب بلغاتهم الأصلية، بل قرأ عنهم عن طريق الترجمات التي استطاع الوصول إليها. وكما يظهر من مهارة القراءة ومنهجية المتابعة، فإنّه يميز بين ترجمة جيدة وأخرى ضعيفة، ويصدر حكماً صحيحاً بشأنها، ما يضع الادعاء بعدم معرفة اللغة الأصلية كمعوّق في خانة الحجة المكشوفة والفاشلة. جيد أنْ تعرف لغة أجنبية إلى جانب لغتك العربية التي تقرأ وتكتب فيها، لكنّ القارئ الدؤوب سيجد حلولاً للغة اذا ما تعقبها في أكثر من ترجمة. هذا ما يقوله لتوضيح الإشكال في هذا المجال. وتسهيلاً للأمر، يذيل مقالاته في كتاب «دعونا نتفلسف» بقائمتين لأهم المراجع. الأولى يضعها تحت عنوان «ما الذي يجب أنْ يقرأ لـ ...». والثانية «وماذا بعد من مصادر بالعربية لـ ...». ولدى علي حسين موهبة أخرى تتمثل في القدرة على صنع العنوان القوي والجذاب. هو يقدم عالم الاجتماع البريطاني المعروف هربرت سبنسر بطريقة ممتعة ومحبّبة: «مهندس السكك الذي قرر أنْ يعيد ترتيب العالم». ويقدم برتراند رسل تحت عنوان: «من يريد أنْ يتابع الفيلسوف عليه أنْ يطلّق الفلسفة».
طوّع ولعه بالكتب لتقديم زوايا متنوعة في صفحته على فايسبوك


لعل القاسم المشترك في مقالاته الثقافية الواسعة والمكتوبة بإحكام محبّب، أنّه يبثّ الحماسة للقراءة في جمهور قرّائه ويشدّهم إلى العمل ويدفع بهم إلى البحث عن المزيد. وهذا أفضل ما يستطيع الكاتب المعلم أنْ يقوم به، وبخاصة إذا كان كاتباً تنويرياً من وزن علي حسين. لا يقدم كتاباه المذكوران مخططاً نظرياً أو فلسفياً محدداً يمكن أنْ ينسب إليه، ولكنّهما معاً يمثلان خزيناً معرفياً من كاتب صحافي متمرس وعارف بفنون الصحافة وإبداعاتها تصلح لتكون مادة ممتازة لكل طالب معرفة أساسية ثقافياً وفلسفياً. إنّه يعطي نموذجاً للكاتب الصحافي الذي يحاول أنْ يردم الهوة بين شريحتين مهمتين، هما شريحة المثقفين المنفتحين على طرز الكتابة والتفكير والتأمل من جانب، وشريحة الأكاديميين المتمسكين باختصاصاتهم من جانب آخر. بهذا الجهد، يدعو علي حسين إلى لقاء تغتني من خلاله كلا الشريحتين. وهذه رسالة مهمة يمكن أنْ تسهم في تعميق آفاق التعاون والتأثير بينهما من أجل مجتمع أكثر حيوية وأكثر نشاطاً.
لا ينتمي علي حسين إلى حزب أو جمعية أو نقابة، لكنّه يعبر عن مواقف سياسية حرة يبحث فيها عن العدالة ويتحرر من قبضة الإلزام والالتزام. ومع أنّ للأشخاص طبيعة، الا أنّه يعترف بتواضع أنّ قراءاته المتنوعة ألهمت ضميره وطورت مفاهيمه عن الحياة والعالم، فجعلته أكثر انفتاحاً وتسامحاً ونقاوة وتأنياً في إطلاق الأحكام. ولعل الأهم أنّه لم يحتفظ بخزينه والدروس التي تعلمها لنفسه، بل شاركها ويشاركها بسخاء.
كتابان في فن الكتابة الصحافية التنويرية تجاوز فيهما الكاتب الأساليب التقليدية التي جعلت الصحافة مهنة من لا مهنة له. في عرف علي حسين، إنّ للصحافة دوراً وقضية لن تبلغهما من دون جهد معرفي وثقافي يتّسم بالتنوع والدأب وإعمال الذاكرة وسلاسة التقديم لتكون ثروة تمدّ بالغنى الذي لا يني يتقدم ويتقدم على سبيل التفكر المستمر الذي ما يلبث أنْ يلد فكرة جديدة تطلع من رحم أفكار قديمة.
* أكاديمية عراقية