حميد بن عمرة (1964) سينمائي جزائري، درس السينما ثم أتبعها بدراسة التاريخ والسينما في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية لدى مارك فيرو. حقق عدداً من الأفلام الروائية والوثائقية، وأنجز في السنوات الأخيرة: «كيما» أو «اليد التي لا تملك سلاحاً (52 دقيقة) حول الكاراتيه (هو أيضاً لاعب ومدرب كاراتيه).
«شيء من الحياة وشيء من الحلم» (75 دقيقة) حول الرسام الجزائري مصطفى بو طاجين الذي يعمل على رسم بورتريهات من ملصقات إعلانية وتحويلها «بورتريهات» لوجوه ثورية.
«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» (90 دقيقة) مع الممثل الجزائري محمد آدار.
«حزام» (87 دقيقة) عن بطلة الكاراتيه الجزائرية آسيا قمرة التي تحولت إلى راقصة ومدربة للرقص.
انتهى أخيراً من تصوير فيلم بعنوان «زمن الحياة»
■ ■ ■

هذا السينمائي له عينا «عقرب» يلدغك بمصل سينمائي يتناثر في داخلك؛ فتطرح الكثير من الأسئلة حول هذه السينما؛ وأفلامه التي تبدو لك كأنها شيء من السينما الصافية... كما تتساءل عن أهميتها وحضورها؛ ولماذا لا تحتل مكانتها الخاصة؛ بين هذا الكل الذي تقدمه السينما في البلدان العربية. بعدما شاهدت فيلمه «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» بدءاً من الإثارة التي تركها العنوان في نفسي؛ وصولاً إلى الإثارة الأكثر عمقاً وأهمية ودهشة؛ التي تجلت في الفيلم بذاته؛ لم أستطع الصمت حينها. كتبت كلمات قليلة من الإعجاب، تبادلتها مع الصديق الناقد السينمائي محمد رضا الذي بادلني المزيد منه. يهدي حميد بن عمرة فيلمه إلى الناقدة السينمائية الفرنسية موني براح بالقول: «الصحافيون يمكن أن يقتلوا ولكن لا خبر. الممثلون قد يقتلون ولكن لا دراما».

الكاميرا بين يديه «عقرب» يلدغنا بمصل هواجسه الخاصة والعامة

لم تكن هواجس الممثل الجزائري المخضرم محمد أدار بين يدي حميد بن عمرة؛ فيلماً بقدر ما كانت «جدارية» ذاتية من الموزاييك البصري؛ للإنسان الجزائري وللجزائر، حيث تبدو كأنها صورة «الأب» وهو يحفر قبره قائلاً: «ما نخاف الموت! نخاف الوقت والتاريخ» ثم يردد وتردد الطفلة وراءه: «أنا أنت في المستقبل؛ وأنت أنا في الماضي».
جدارية من الصور التقطها حميد بن عمرة لهذا الممثل وللأزمنة والأمكنة المختلفة؛ خلال سنوات طويلة؛ وكذلك للحظات خاصة من الحياة الثقافية الجزائرية والعربية، ليشكل منها أحجاراً ملونة ومتلونة في تركيب فيلم خاص. يكشف هذا الممثل من خلالها عن مكنوناته الوجدانية للحياة والعطاء والحب، من دون أن يغيب عنه؛ ما آل إليه ذلك كله؛ وما هو عليه الراهن من خيبة وانكسار. في دلالاته وإيحاءاته اللغوية؛ نرى كيف يظهر الممثل مقنعاً بأنف «المهرج»؛ ويعبر به من وراء ظهر حنظلة ناجي العلي؛ الذي قرر أن لا يلتفت حتى تتحرر فلسطين. نعبر نحن بالأبيض والأسود لنتمعن في الحوار بين المخرج اللبناني برهان علوية وفيلمه «رسالة من زمن المنفى» والمخرج الجزائري ذي الفيلم الوحيد فاروق بلوفة؛ وكذلك الجدل بين رسام الكاريكاتور جورج البهجوري والمفكر المصري غالي شكري؛ وقصص السوري جميل حتمل «حين لا بلاد»؛ مشيراً إلى لحظة تتويج الفيلم السوري «الليل». تاركاً لنا عبر ذلك كله أن نفكر بالجزائر التي تبدو على لسانه أشبه بــ «كارت بوستال» وفيلم لم يصور بعد.
خلال «مهرجان وهران السينمائي» 2016، التقيت حميد بن عمرة للمرة الأولى؛ واختطفتني الكاميرا التي لا تغادره أبداً، مردداً: «لا شيء في الحياة لا يستحق التصوير». ثم أمام المرآة، قال لي: «إنها لك! فكن أنت!» وبدأت كاميراه تدور. هكذا استأصل مني لحظات شخصية خاصة، وبدا لي أنه على معرفة عميقة بأفلامي. يقول: «السينما بالنسبة لي هي التركيب! والفيلم هو فكرة ستجد في الكثير مما صورته على مدى السنوات الطويلة الصور التي تحتاج لتركيبها». بعدها حدثني بكلمات عامة ومتناثرة عن فيلمه الذي يحققه بعنوان «حزام».
في وهران، لم تكن الفرصة تسمح إلا بالمزيد من المودة المتبادلة بيننا؛ ونثأر بالسخرية لهذا التسلط والقمع السائد على الثقافة والسينما في هذه البلدان العربية. لا أخفي أنه أخذ يحرضني على أن لا أضيّع المزيد من الوقت في الانتظار لتحقيق ما أريد؛ وأن أشق لنفسي طريقاً يختلف عن هذا الحال السائد؛ والتعويل على المافيات المسيطرة على الإنتاج العربي الرسمي أو الأوروبي.

من فيلم«حزام»

حين بعث لي فيلمه «حزام» ـ بصرف النظر عن سباكته لتلك اللقطات التي صورني بها ـ وجدت أنني أمام جدارية أخرى؛ وجدران قلعة تتحصن داخلها الراقصة الجزائرية آسيا قمرة. يقدم من خلالها استعراضاً سينمائياً للرقص والموسيقى والمرأة؛ والحزام الذي يغطي بطن المرأة المتوج بـ «سرّة» الولادة والجمال. شعرت في هذه المرة أيضاً؛ أن الكاميرا بين يدي حميد بن عمرة «عقرب» يلدغنا بمصل هواجسه الخاصة والعامة؛ لينفرد بنفسه ويصنع من ذلك كله سينماه. فيعيد للسينما من خلال هذه العين؛ مهمتها في أن تكون متعة بصرية تتسرب إلى وجدان المتلقي؛ وتغمره بالدلالات والأفكار عن هذا الواقع العام.
■ ■ ■

في زيارتي الأخيرة إلى باريس قبل أسابيع؛ هبط حميد بن عمرة أمامي كـ «الملاك» ذي الكاميرا. (في الحقيقة «الرجل ذو الكاميرا» كما يقول السينمائي السوفيتي دزيغا فيرتوف). دعاني بدفء لمرافقته إلى بيته (معمله السينمائي) لاحتياج يخص فيلمه الذي يحققه الآن. بعد مداولات متعددة؛ اختطفني إلى «بابله». في عتمة ليل متأخر؛ وصلنا إلى بيته في «كورسيل على البحر»؛ حيث يعيش وزوجته ستيفاني المشاركة والشريكة في كل تفاصيل عمله في السينما، مع أطفالهما الأربعة (هم أيضاً بشكل من الأشكال شركاء في هذا المعمل). في الصباح، وجدت أن ما يحيط بي من جدران أو ستائر أو أثاث أو أي تفاصيل أخرى؛ يسبح في عالم بين الأبيض والأسود. رددت في نفسي: «صباح الخير سينما»، بينما كانت عين الكاميرا تسترقنا بيادق بيضاء أو سوداء، ونحن نتحرك في فضاء «شطرنج» سينمائي. فالكاميرات متناثرة في كل مكان وبين الأيدي (بما فيها في متناول الأطفال) والإضاءة لا تحتاج إلا لتغيير طفيف في أماكنها وكبس الزر لتنير. الميكروفونات جاهزة لالتقاط أي صوت أو حوار. أما وراء هذا الحاجز الخشبي الأسود؛ الذي يحتل الجدار الرابع لصالون البيت؛ فإن كل شيء متوفر كي ينجز فيلم.
في الأيام الثلاثة من الإقامة والمعايشة؛ تعرفت إلى سينمائي البيت (وسينما الحجرة) وسينما تلدغ كل لحظة من لحظات الحياة؛ لأنه يحق لها أن تكون صورة؛ ربما يأتي يوم وتدخل في نسيج التركيب المحتمل لفيلم من الأفلام. لا شيء يسبق الصورة المصورة؛ لا الكتابة ولا السيناريو ولا المنتج ولا الإنتاج. يقول: «لقد اخترت أن أكون ضد سينما «الشاحنات» وسينما الانتظار. اعتدت (وستيفاني) منذ سنوات طويلة اللجوء إلى الكاميرا في كل لحظة. بدلاً من أن نحتفظ في خزائننا بالملفات الورقية والسيناريوهات التي تنتظر الرقابة أو المنتج؛ فإننا نحتفظ بالمئات إذا لم يكن بالآلاف من الصور المسجلة خلال سنوات طويلة؛ للأحداث اليومية والحوارات والمشاهدات الكثيرة؛ والظروف المختلفة التي يعيشها بلدنا أو البلد الذي نتواجد فيه من الأحزان أو المآسي أو النكبات. لا شيء لم نصوره نحن. لا أريد في سينماي أن أعتمد على طعم الصور التي نعيشها أو نراها أو نواجهها وهي محبوسة في القلب أو الوجدان أو الذاكرة؛ ثم نعيد إنتاجها (تساءلت لحظتها هل هذا نتيجة لما كان قد باح به؛ من أن أذين قلبه مهدد بالإطباق؟!) فكل شيء مصور أولاً».
موزاييك بصري للإنسان الجزائري والجزائر


والكاميرا في متناول يده وجاهزة لتطلق الصور رشاً أو دراكاً؛ واللقطات قصيرة؛ سريعة كنبض القلب؛ والعين شغوفة بأن تكون الصورة محلقة كعين الطائر؛ والكاميرا تتحرك كعقارب الساعة؛ لا فرق إلى الأمام أو إلى الخلف. فما أن فتحت باب الشرفة؛ ضغط زر الكاميرا قائلاً: «بدأت الآن تركيب فيلمي الجديد «زمن الحياة»»؛. لحقت الكاميرا بي لنطل معاً على صباح «المانش». مدت عينها مع يدي لنلتقط قطرة من مطره؛ وأصغينا معاً وطويلاً لهديل الحمام بعيداً عن زئير القذائف وهدير الطائرات.
في اليوم التالي لوصولي، استضافت الكاميرا صديقة الفيلم الجديد: إنها السيدة الإفريقية التوغولية ماييك دارا القادمة من باريس التي تعمل منذ أكثر من ثلاثين عاماً في فرنسا في «دوبلاج» الأفلام الأميركية؛ والمتخصصة بدوبلاج نجمات السينما الأميركية. في الشرفة في ذاك الصباح البارد؛ تناولت القهوة مع هذه السيدة العذبة. حدثتني عن نفسها التي غدت «صوتاً» معاراً لكبار نجمات السينما في هوليوود. وبين دخان سجائرنا وحبات المطر البحري؛ أخذ حميد لقطات متعددة لتجربة الإنسان الذي يهب السينما صوته ويغدو صوتاً. تذكرت كلمات محمد آدار في فيلم «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» التي تقول: «المسرح كلمات ملونة في أعين الممثلين». فقد كانت عينا ماييك دارا تتلون بعذوبة وهي تغني. في النهار اصطحبنا حميد إلى ساحل بحري معزول؛ ليصور اللحظة التي تعثر بها التوغولية في الرمال على الأحذية التي قذفت بها أمواجه. أعطاني واحدة من الكاميرات لأصوّرها. وقام بالتقاط ما يريده هو؛ وما يراه ضرورياً لفيلمه الجديد «زمن الحياة». في المساء غنت ماييك دارا بصوتها الحنون العديد من الأغنيات الإفريقية. وفي الصباح عادت إلى باريس لتتابع إهداء صوتها للسينما.
لا يبدو حميد بن عمرة، من خلال ما يحققه، مؤلفاً بقدر ما يعيد اشتقاق الأسئلة الخاصة بالواقع. حين يتمرد على اللقطة والمشهد والحكاية؛ فإنه يضع المتلقي أمام خفقان أجنحة الطائر؛ وطعم حبة المطر؛ وجمال «حزام» يغطي بطن المرأة الحامل في سياق من الصور أشبه بنهر في هدوئه وغضبه. يقول لي في الصباح الباكر والناس نيام «من الممكن أني كنت عنكبوتاً في حياة أخرى. لكني أفقه جيداً في «النسيج» فقد كنت أساعد أمي كثيراً في نسج الزرابي (القفف). وكنت أحب كثيراً أكوام الصوف التي تتحول بين يدي أمي إلى كبكوبة من الخيوط؛ وهي ترسم بصبر من لفة إلى أخرى؛ بين أصابعها عقد النسيج الجميل الذي كنت أنتظره بقلق أن يكتمل».
إن ثقتي كبيرة بعينه السينمائية؛ والوجدانية العميقة في رؤيته للواقع في البلدان العربية. فقد تركته يصور ما أفكر به؛ ما أكتبه؛ وأن أقرأ له شيئاً من ذلك، وأن أصعد على سلم خشبي في فضاء فارغ، كما فعلت مع ممثلي في نهاية فيلمي «سلم إلى دمشق»؛ وأن أصرخ وأنا أعلى السلم بنداء كما صرخوا. لم يكن لدي فرق أن أكون في فيلمه بيدقاً أوحصاناً؛ في هذا الفضاء السينمائي المتبادل بيننا. شعرت بالأسف لأني لم أكتب على الجدار الحجري العتيق الجملة التي أراد أن أكتبها، وقد وضعتها في مقدمة سيناريو «سينما الدنيا» (1996) الذي لم يتحقق حتى اليوم؛ والتي تقول: «في البدء كانت العتمة! ثم خلق الله العالم على صورته؛ فكانت الدنيا. فجاء الإنسان وأعطى الدنيا صورتها فكانت السينما».

* سينمائي سوري