في عام 2011، حدّدت منظمة الأونيسكو، يوم 30 نيسان (أبريل) من كل سنة، للاحتفال بموسيقى الجاز، وأطلقت على هذا التاريخ اسم «يوم الأونيسكو العالمي للجاز». انضمّت تباعاً العديد من الدول إلى نادي المحتفلين بالمناسبة، ومنها لبنان، حيث أدرِجت على الروزنامة بدءاً من عام 2013. ملاحظاتنا (السلبية) على هذا الحدث عموماً كثيرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشق المحلّي. ملاحظات لا مجال للخوض فيها هنا، لكن أعمقها ينطلق أساساً من مفهوم الجاز بين الأمس واليوم. ما هو الجاز؟ وماذا يراد له أن يكون اليوم؟ كيف كانت علاقة المنظمات الأممية به؟ ولماذا بات في صلب اهتماماتها اليوم؟ كيف كان موسيقيو الجاز (jazzmen) الأصيلون؟ وكيف أصبح معظمهم اليوم؟ كيف وأين كان يمارَس الجاز وكيف أصبحت أجواؤه العامة اليوم؟ كل هذه المراقبات تحتاج إلى تحليل وشرح ومعالجة. فمقارنة مفهوم الجاز الحقيقي بالمفهوم الهجين الذي أحيط به اليوم، تشبه المقارنة بين تجربة أحزاب اليسار بعد الحرب العالمية الثانية وتجربة المجتمع المدني، وتشبه أيضاً المقارنة بين النقابات والمنظمات غير الحكومية. وبخلاف ما توحي به الاحتفالات والاحتفاءات بالجاز وتخصيص يوم عالمي له، الجاز ليس بخير. لا بل يعيش أسوأ مراحله، ويتم الاعتداء عليه كحصان أصيل وقع بين أيدي مراهقين. والدليل: كل التجارب الجدّية التي تحترم أصول الجاز وخصوصيته (تحتاج إلى معرفة علمية وإمكانات تقنية هائلة وخيال مضبوط) لا مكان لها اليوم، لا في الإنتاج ولا في التوزيع ولا في الإقبال عليها في محلات بيع الموسيقى ولا في المنصات الرقمية ولا في الحفلات الكبيرة ولا حتى في الأمسيات الحميمة، لا هنا ولا في معقل الجاز. فهل يُعقَل أن يرتعد منظمو المهرجانات إن نصحتَهم بأسطورة جاز حقيقية لتحيي أمسية في دوراتها، فيقولون: لن يأتي أكثر من 300 شخص، من ضمنهم 200 دعوة مجانية كي لا يشعر الضيف بالإهانة! هل يُعقَل ذلك، بينما تثار كل هذه الضجة متى زار ابراهيم معلوف لبنان (أطل حتى في نشرة الأخبار، ليخبرنا أنه غير متمكّن من لغته الأم، وهذا يحزّ في قلبه… واضح!). ماذا لدى ابراهيم معلوف؟ ربع صوت على الترومبيت؟! هناك أبرع منه بكثير في إصدار هذه المسافة الصوتية، والأنكى أن من لا تعرفونهم (نزار عمران مثلاً... هو سوري، بلا مؤاخذة، ومتمكنٌ من لغته الأم، لسوء حظه) يصدرون هذا الصوت ببراعتهم في التحايل على الآلة، لا من خلال مفتاح إضافي يُضغط عليه بسهولة تامة (كما يفعل معلوف)! حتى مايلز دايفس «فَلَت» مرّةً منه ربع صوت، لكنه أتى عفوياً ولم يحتج إلى «حَلْبِه» (عذراً على التعبير) حتى يبهر الناس، مع أنه كان مهووساً بالأصوات الجديدة. كذلك، لماذا لم تهتم المنظمات الأممية بالجاز عندما كان العباقرة يُضطهدون عنصرياً ويُعاملون بقسوة من الدولة (الشرطة) والمجتمع؟ وفي تذكير بما قالته مرة نينا سيمون، أورد القائمون على الحدث في لبنان في البيان الصحافي بأن «الجاز ليس مجرّد موسيقى، هو أسلوب حياة وطريقة عيش وتفكير». صحيح مئة في المئة… لا تعليق!
على مدى ثلاث ليالٍ، تتوالى فرق وأسماء محلية بمعظمها


إذاً، برعاية الأونيسكو ووزارتَي الثقافة والسياحة، تنظّم «الجمعية اللبنانية للمهرجانات الثقافية» و«مهرجان بيروت للجاز» الدورة السادسة من يوم الجاز العالمي في بيروت من 28 وحتى 30 نيسان، حيث تستضيف ساحة النجمة (وسط بيروت) الاحتفالات، للمرة الأولى، وهي متاحة للجميع مجّاناً. ناهيك عن كل ما تقدّم، لا يشكّل برنامج دورة الحالية مفاجأة كبيرة، مقارنةً بأقل الدول إمكاناتٍ وأكثرها عزلة، ككوبا التي تحتفل بالحدث بما يليق بالجاز وبجمهوره الجدّي. أما هنا، فعلى مدى ثلاث ليالٍ، تتوالى فرق وأسماء محلية بمعظمها (باستثناء فرقة من أستراليا!)، بعضها جيد، لا شك، لكنها الأسماء ذاتها، تتكرر وتتكرر وتتكرر، في يوم الجاز وفي عيد الموسيقى وفي الحانات.


يشارك في الليلة الأولى (28/4) توفيق فرّوخ وفرقته، ورائد الخازن تريو، وأرتور ساتيان وفرقته، وPilot Trio وThe Proud Music Society. ويحيي الليلة الثانية (29/4) Sweet Ride Blues Band وQuad 5 وReal Deal Blues Band، بالإضافة إلى Zela Margossian Quintet من أستراليا. أما الليلة الختامية (30/4) فتطل فيها الفرق التالية: Anna Mattar Jazz Quartet وBand Audi وMonday Blues Band وRum’N’Salty.
في الوقت الذي تقام فيه هذه الاحتفالات، في لبنان والعالم، فكّروا فقط بأن هناك أساطير في الجاز لم تملك ثمن رغيف خبز، وأخرى سُجِنَت لأسباب تافهة، وأخرى ماتت على الرصيف. الجاز هو شلّة من الرفاق المعتّقين الذين يعزفون مبتسمين في حانة متواضعة في نيو يورك مقابل بضعة دولارات وكأس براندي في آخر السهرة… الجلوس على البار أمامهم يساوي كل هذا الجاز الذي تتكلّم عنه الأونيسكو اليوم، والتسكّع برفقتهم لاحتساء «نقطة» أخيرة على الرصيف بعد العزف ومنتصف الليلة، يساوي كل هذا المجتمع الحديث المزيّف.

* الدورة السادسة من «مهرجان بيروت للجاز»: بدءاً من الغد حتى 30 نيسان (ابريل) ساحة النجمة ــ الدخول مجاني