طفلان فلسطينيان يقفان أمام الركام في مخيم شاتيلا بعد حرب المخيمات (1987)
هناك بين قصص الحرب والقصف ذكريات جميلة ما زالت ألين تحتفظ بها: جو الناس، والنسيج الاجتماعي في بيروت. تتحدّث عنها كما لو أنها قرية أخرى، أو عنقود الضيع كما وصفها الشاعر عصام العبدالله. «لم نكن نفوّت فرصة للسهر والرقص والضحك بهستيريا. كنا نتعامل مع كل يوم كأنه الأخير». تسترجع مانوكيان السهرات الطويلة في حانة «باكستريت» في الحمرا، التي كانت تسند بابها الحديدي سواتر رملية. «كنا نلجأ إلى الضحك كنوع من الحماية الذاتية. حين يكون هناك قصف في الخارج، كنا نستمر في الرقص على الطاولات حتى طلوع الضوء». تسترسل أحياناً في استعادة بعض القصص، فيما تتهرّب أحياناً من الحديث عن بعضها «لأن كل من كان في بيروت عاش قصصاً، فالحرب لم تكن على جبهة معزولة كي أخبر عما لم يره غيري. المرأة التي اختطف ابنها او قتل زوجها لديها، ربّما، أهم ما قد أخبره أنا». المصوّرة التي ولدت في منطقة البطركية في بيروت لعائلة أرمنية، لم تخبر ابنها القصص العنيفة للحرب، لا تورثه ما حملته من ثقل ذاكرة المجازر الأرمنية التي كانت تستمع إليها طفلةً. لكن أكثر ما يعلق في ذاكرتها هو الناس وانقلابهم السريع من الحالة الطبيعية إلى الإجرام. لقد شهدت مما شهدته، تحوّل أشخاص كانت تعرفهم إلى قتلة مع طلوع نهار اليوم الآخر. تصرّ على استخدام مصطلح قتلة لا مقاتلين، حيث لا عدوّ هنا يستدعي المقاتلة. اليوم، تلمح في شوارع بيروت بعضاً ممن تورّط في الدم، وهم يحاولون أن يعودوا عبثاً إلى حياتهم الطبيعية. تستطيع أن تميّزهم مرجعة العنف اليومي في الشارع إلى الوراثة من جيل احترف القتل. عنف يومي كهذا هو الذي يعيد لألين شعور الألفة لبلدها الذي رأته لآخر مرّة في حرب التحرير التي صوّرتها من فندق ألكسندر في الأشرفية. في تلك الفترة، تفوّقت القذائف الثقيلة على قدرة تحمّلها، وقررت الرحيل نهائياً. عادت بعدها إلى لبنان مرّة في 1991، ولم ترجع حتى عام 2009 مجدداً. في باريس، لم تترك التصوير، وإن قررت الابتعاد عن الحروب في شكل نهائي. هناك عملت مع وكالة Black Star الأميركية، ثم مع وكالة «رافو» الفرنسية، منصرفة إلى تصوير الأزمات الاجتماعية والمعيشية في روسيا ورومانيا، وأرمينيا، وليبيا ومصر والجزائر، إلى جانب عملها كمحررة فوتوغرافية لـ 15 عاماً. قرار العودة عام 2015 كان ملحاً وصعباً في الوقت نفسه. تستخدم مانوكيان اسم فيلم مارون بغدادي «حروب صغيرة» لتسمية تغيّرات بيروت الكثيرة التي اصطدمت بها: التلوّث، وهدم الأبنية، وسلطة المال، وتغير العلاقات الاجتماعية. لا تستسلم على رغم ذلك. تمشي في شوارع المدينة، وتكمل بحثها بعدستها، لمشروع جديد تعمل عليه الآن. إنه متعلّق حتماً بالحرب، تجزم لنا. هناك صور كثيرة من هذا المشروع لبحر بيروت الذي كلما تضيق بها المدينة تنزل إليه. ربّما لأنه يكاد يكون الوحيد الذي بقي على حاله. من بين الصور التي تطلعنا عليها، هناك لقطة لثلاثة قضبان حديدية، يستقيم اثنان منها، فيما ينحرف مسار أحدها نتيجة شظية أصابته. «من هذه الصورة انطلقت، إنها تعبّر عن حالتي. كلما أحاول أن أمشي بخط مستقيم، يخيبني البلد مجدداً» تقول. في السنوات الثلاث الأخيرة التي قضتها هنا، أسّست مانوكيان مع المصوّر باتريك باز وآخرين «مركز بيروت للفوتوغرافيا» الذي أدارت بعض فعالياته وأنشطته، قبل أن تجد نفسها مضطرّة مرّة أخرى إلى الرحيل. على رغم كل شيء، يصعب القول أن المدينة بهيئتها الحالية بخيلة إلى هذا الحد. قد تفرج أحياناً عن أشياء تذكّرها بالمكان الذي قضت فيه فترة شبابها، كأن يظهر مسلح في شكل مفاجئ في أحد الزواريب، فتستعيد مشاهد الحواجز الطيارة في الحرب، لتطمئن إلى أنها في البلد الذي تعرفه جيّداً.