لم تقدّم بيروت لألين مانوكيان الكثير. في حرب التحرير عام 1989، غادرت المصوّرة اللبنانية المدينة التي ولدت فيها نهائياً إلى باريس. اتخذت القرار الحاسم بين ضربات الصواريخ التي كانت تسقط على بيروت بشقيها الشرقي والغربي. لهذا ربّما لم تعد تذكر تفاصيل المغادرة. في حالة السلم أيضاً، بخلت المدينة عليها بخيارات قليلة، أولها الرحيل مجدداً. حين زرناها قبل أيّام، كانت توضّب أغراضها للسفر إلى قبرص للعمل في وكالة «أ. ف. ب» كمحررة فوتوغرافية. تشبّه أولى المصوّرات اللبنانيات خلال الحرب عودتها إلى البلاد، كالعودة إلى حضن أم معنِّفة وسادية. تتلقى الضربات منها باستمرار، لكنها لا تجد نفسها إلا بين أحضانها مرّة أخرى. قد يأخذها الماضي أحياناً فتبحث عما كان وصار شيئاً آخر... عما كان واختفى نهائياً. تأخذنا ألين بالزمن إلى أولى ذكرياتها الفوتوغرافية. رأت الصور وتعرّفت إليها في الكتب الفوتوغرافية التي كانت تقتنيها أختها الرسامة اللبنانية المعروفة سيتا مانوكيان. من هنا جاء قرار السفر إلى أميركا لدراسة تاريخ التصوير الفوتوغرافي في «بيرس كولدج» في لوس أنجليس، بعد خمسة أعوام على اندلاع الحرب الأهلية. قضت هناك نحو ثلاث سنوات، وحين عادت إلى لبنان نهاية 1983، كان أوّل مكان زارته مخيم شاتيلا. «أحسست بالذنب لأني لم أكن هنا خلال الاجتياح، ولم أعشه» تقول لنا. لهذا حاولت استعادة ما فاتها عبر كاميرتها. على رغم أنه كان قد مرّ أكثر من عام على المجزرة، فإن صورها بالأبيض والأسود للمخيم تحمل عنفاً مبطناً. كأنها كانت تحاول التنقيب عما حصل في الزواريب والركام والمقبرة الجماعية التي طُمرت فيها كل الفظاعات.يرتبط وعي ألين الفوتوغرافي بالحرب الأهلية اللبنانية مباشرة. «لم أستطع أن أبقى مكتوفة الأيدي أمام ما كان يحصل»، تقول، مؤكّدة أنها كانت ترغب بالمشاركة بما يحصل بأي طريقة متاحة. تصف التصوير، كنوع من فعل الشهادة على الأحداث وتوثيقها الذي وجدت نفسها مدفوعة للقيام به. ما رأته على الطرقات وفي المدينة كان يدعوها باستمرار إلى الاعتراض عليه عبر كاميرتها. تبوح بأن تفكيراً كهذا قد يكون نوعاً من السذاجة حينها لأن الصورة لم تغيّر شيئاً مما غيّرته الحرب أساساً. لدى عودتها من أميركا، عملت في صحيفة الـ«دايلي ستار»، ثم في وكالة «رويترز» التي صارت مديرة قسم التصوير فيها. لم يكن نزول شابة في عمر التاسعة عشرة إلى الأرض وتصوير المعارك أمراً سهلاً، لا بالنسبة إلى الأهل ولا إلى المصورين الذكور الذين لم يتقبل عدد منهم هذا الأمر. لهذا نظم بعضهم عملية خطف لمانوكيان لساعات وهي تمشي على كورنيش المزرعة، لتعرف بعدها أنها كانت تدبيراً لترهيبها فقط. إلى جانب صورها التي ترأف بالناس العاديين، ومشاغلهم الاجتماعية ويوميات اللجوء، كلقطة لثلاث طفلات يلعبن في وسط بيروت المدمّر، صوّرت أقسى المعارك بين 1983 و1989. غطّت معارك طرابلس بين حزب التوحيد والأحزاب اليسارية، وحرب المخيمات، ومعارك بيروت بين الاشتراكيين وحركة أمل، والقصف الإسرائيلي في الجنوب، الذي التقطت في أحد قراه صورتها الشهيرة لعائلة تقطن بيتاً مهدّماً، لم تعد تعذّب نفسها بإعادة ترميمه بعدما هدم لأكثر من مرّة. ما هي المساحة التي يملكها المصوّر لقول ما يريده وسط سرعة الأحداث؟ تجيبنا المصوّرة بأن لا مجال للتفكير كثيراً في الحروب. «هناك صور محكومة بالتلقائية والعفوية والسرعة في التقاط اللحظة. يمكن للمصوّر أن يركز على الكادر، والزاوية التي يريد منها أن يأخذ الصورة. هذا كل ما يستطيع التخطيط له».
طفلان فلسطينيان يقفان أمام الركام في مخيم شاتيلا بعد حرب المخيمات (1987)

هناك بين قصص الحرب والقصف ذكريات جميلة ما زالت ألين تحتفظ بها: جو الناس، والنسيج الاجتماعي في بيروت. تتحدّث عنها كما لو أنها قرية أخرى، أو عنقود الضيع كما وصفها الشاعر عصام العبدالله. «لم نكن نفوّت فرصة للسهر والرقص والضحك بهستيريا. كنا نتعامل مع كل يوم كأنه الأخير». تسترجع مانوكيان السهرات الطويلة في حانة «باكستريت» في الحمرا، التي كانت تسند بابها الحديدي سواتر رملية. «كنا نلجأ إلى الضحك كنوع من الحماية الذاتية. حين يكون هناك قصف في الخارج، كنا نستمر في الرقص على الطاولات حتى طلوع الضوء». تسترسل أحياناً في استعادة بعض القصص، فيما تتهرّب أحياناً من الحديث عن بعضها «لأن كل من كان في بيروت عاش قصصاً، فالحرب لم تكن على جبهة معزولة كي أخبر عما لم يره غيري. المرأة التي اختطف ابنها او قتل زوجها لديها، ربّما، أهم ما قد أخبره أنا». المصوّرة التي ولدت في منطقة البطركية في بيروت لعائلة أرمنية، لم تخبر ابنها القصص العنيفة للحرب، لا تورثه ما حملته من ثقل ذاكرة المجازر الأرمنية التي كانت تستمع إليها طفلةً. لكن أكثر ما يعلق في ذاكرتها هو الناس وانقلابهم السريع من الحالة الطبيعية إلى الإجرام. لقد شهدت مما شهدته، تحوّل أشخاص كانت تعرفهم إلى قتلة مع طلوع نهار اليوم الآخر. تصرّ على استخدام مصطلح قتلة لا مقاتلين، حيث لا عدوّ هنا يستدعي المقاتلة. اليوم، تلمح في شوارع بيروت بعضاً ممن تورّط في الدم، وهم يحاولون أن يعودوا عبثاً إلى حياتهم الطبيعية. تستطيع أن تميّزهم مرجعة العنف اليومي في الشارع إلى الوراثة من جيل احترف القتل. عنف يومي كهذا هو الذي يعيد لألين شعور الألفة لبلدها الذي رأته لآخر مرّة في حرب التحرير التي صوّرتها من فندق ألكسندر في الأشرفية. في تلك الفترة، تفوّقت القذائف الثقيلة على قدرة تحمّلها، وقررت الرحيل نهائياً. عادت بعدها إلى لبنان مرّة في 1991، ولم ترجع حتى عام 2009 مجدداً. في باريس، لم تترك التصوير، وإن قررت الابتعاد عن الحروب في شكل نهائي. هناك عملت مع وكالة Black Star الأميركية، ثم مع وكالة «رافو» الفرنسية، منصرفة إلى تصوير الأزمات الاجتماعية والمعيشية في روسيا ورومانيا، وأرمينيا، وليبيا ومصر والجزائر، إلى جانب عملها كمحررة فوتوغرافية لـ 15 عاماً. قرار العودة عام 2015 كان ملحاً وصعباً في الوقت نفسه. تستخدم مانوكيان اسم فيلم مارون بغدادي «حروب صغيرة» لتسمية تغيّرات بيروت الكثيرة التي اصطدمت بها: التلوّث، وهدم الأبنية، وسلطة المال، وتغير العلاقات الاجتماعية. لا تستسلم على رغم ذلك. تمشي في شوارع المدينة، وتكمل بحثها بعدستها، لمشروع جديد تعمل عليه الآن. إنه متعلّق حتماً بالحرب، تجزم لنا. هناك صور كثيرة من هذا المشروع لبحر بيروت الذي كلما تضيق بها المدينة تنزل إليه. ربّما لأنه يكاد يكون الوحيد الذي بقي على حاله. من بين الصور التي تطلعنا عليها، هناك لقطة لثلاثة قضبان حديدية، يستقيم اثنان منها، فيما ينحرف مسار أحدها نتيجة شظية أصابته. «من هذه الصورة انطلقت، إنها تعبّر عن حالتي. كلما أحاول أن أمشي بخط مستقيم، يخيبني البلد مجدداً» تقول. في السنوات الثلاث الأخيرة التي قضتها هنا، أسّست مانوكيان مع المصوّر باتريك باز وآخرين «مركز بيروت للفوتوغرافيا» الذي أدارت بعض فعالياته وأنشطته، قبل أن تجد نفسها مضطرّة مرّة أخرى إلى الرحيل. على رغم كل شيء، يصعب القول أن المدينة بهيئتها الحالية بخيلة إلى هذا الحد. قد تفرج أحياناً عن أشياء تذكّرها بالمكان الذي قضت فيه فترة شبابها، كأن يظهر مسلح في شكل مفاجئ في أحد الزواريب، فتستعيد مشاهد الحواجز الطيارة في الحرب، لتطمئن إلى أنها في البلد الذي تعرفه جيّداً.