يتفاقم التصحر الثقافي في المدن الداخلية والمهمشة
إذن كان التدشين الكبير من نصيب وزير الداخلية الأسبق ورئيس البلاد حالياً الباجي قايد السبسي الذي أتى إلى المدينة مصحوباً برئيسي الحكومة والبرلمان وجمع من الوزراء والنواب. بطبيعة الحال، كان الحرس الرئاسي حاضراً بقوة. المنظر كان مبهجاً حقيقة: سلطة ورجال أعمال وأجهزة أمنية في مدينة الثقافة. بدأ فخامته الزيارة برفع الستار عن لوحة تخلد المناسبة وكتب فيها اسمه بحروف كبيرة ومذهبة. ثم أمسك المقص (المذهب أيضاً) وقطع شريطاً أحمر طويلاً كان يمسكه له وزير الثقافة. تجول سيادته في أرجاء مدينة الثقافة التي تشبه كثيراً المراكز التجارية الفخمة من الداخل. في كل خطوة كان يحيط به مسؤولون دائمو الانحناء والابتسام. بالطبع، تم توجيه الدعوة لأعيان الثقافة وأغلبهم من «أحباء» وزارة الثقافة. كل شيء في تدشين مدينة الثقافة، كان يذكر بالأجواء «النوفمبرية البنفسجية» (نسبة الى بن علي): فخامة المكان، المصاريف الكبيرة، الخواء، المبهرج، خطاب الرئيس، تصفيق الحاضرين، وجوه المسؤولين البيضاء وابتساماتهم الصفراء.... الموسيقى التي عزفتها الفرقة الاوركسترالية التونسية هي ربما العنصر الوحيد الذي أضفى بعض الجمال على الاحتفال. زين العابدين بن علي لم يكن حاضراً لتدشين مدينته، لكن الذين خلفوه لم يقصروا وأعادوا تذكيرنا بـ «الزمن الجميل».
نظرياً، يعتبر كل فضاء عمومي للثقافة مكسباً للبلاد ومثقفيها. مدينة الثقافة الممتدة على مساحة شاسعة هي متعددة الاختصاصات تضم فضاءات مخصصة لمختلف أشكال الإبداع الفني والأدبي: مسارح، استوديوهات، مجمع السينما، مكتبة، قاعات عرض للفنون التشكيلية... كل هذا جميل، لكن المشكل أنّ «الثقافة» تتركز أكثر فأكثر في العاصمة وضواحيها، في حين يتفاقم التصحر الثقافي لباقي المدن (خصوصاً الداخلية والمهمشة). المصاريف الضخمة التي رصدت لبناء وتجهيز وتدشين المدينة الثقافية، كان من الممكن (ربما) أن تحل أزمة مئات الفضاءات الثقافية في كامل أرجاء البلاد.
بما أن المشروع قد اكتمل وأصبح واقعاً، فلندع مسألة «العدالة الثقافية» جانباً، ولنكن عمليين: هل ستكون هذه المدينة فعلاً منتجة للثقافة ومحفزة للإبداع أم مصنعاً آخر للرداءة والتهريج؟ هناك أيضاً مسألة استقلالية هذه المدينة عن وزارة الثقافة والسلطة السياسية: من سيعين المديرين وكبار الموظفين؟ تاريخ المؤسسات الثقافية العمومية وعلاقاتها الزبائنية مع المثقفين، يجعلاننا أيضاً نتوجس من إمكانية إقصاء المدينة الجديدة للمثقفين غير المتماهين مع السلطة وثقافتها الرسمية مقابل تحولها إلى «مورد رزق» جديد لبعض المثقفين المعروفين بانتهازيتهم وتزلفهم للحكام المتعاقبين.
ألف مبروك لمثقفي «الحاضرة» المدينة الجديدة. أما مثقفو «الأقاليم» فلينتظروا غودو أو فليكتبوا لأنفسهم الرسائل التي يشتهون. رحل بن علي وبقيت مدينته الثقافية. سننتظر ونرى: هل ستكون مكسباً للثقافة أم لوزارة الثقافة والسلطة عموماً؟