«أنوثة بصيغة الجمع» أو Féminités Plurielles معرض لـ 19 فنانة لبنانية حداثوية ومعاصرة من مختلف الأجيال والمدارس تحتضنه حالياً «غاليري تانيت». هنا كل عمل يشكل معرضاً، وكل فنانة تطرح رؤيتها التشكيلية وقصة مكتظة بالمضامين. ثروة بصرية متنوعة بامتياز، ومانيفستو فكريّ لفنانات خُضن تجاربهنَّ الإنسانية - الذاتية أو الاجتماعية - السياسية. فكانت الترجمة أعمالاً من نحت وخزف ورسم، إلى التصوير الفوتوغرافي والفيديو والتجهيز السمعي- البصري. «وما رميت إذ رميت... » تخُطُّها يدا سيمون فتال على المساحة الطينية التي «رمتها». هنا قوة تاريخ الطين تهزّ كيان الرائي، مع لمسات فتال الفريدة التي تعجن «القِدَمَ» وتنفخ فيه روح «الآن». ثلاثة أعمال خزفية/ طينية لفتال تذكرنا أنْ: أولى هُويات الآلهة، الخِزافة.
تجاور أعمال فتال التكوينية، صحف ورقية متراصة فوق بعضها، واقفة كعامود ظلال متّكئ على الدعامة الحاملة لسقف صالة العرض. إنّها أحد أعمال ندى صحناوي. طُليت الصحف المتراصة بالأسود، تتلقاها عيون الزائر بقوة، فيقترب ليفهم المشهد. يقرأ عنوان: «النهار». ألف سؤال يرِد في ذهن الرائي، يدورُ بحثاً عن أجوبة، فيرى أيضاً صحفاً منشورة كلوحات، مطلية بالأبيض تظهر منها - فقط بالحبر الأسود المعتمد في طباعة الجرائد- بعض العبارات غير الحربية. على هذه الجغرافيا الورقية التي تمتد على مساحة وطن مهشّم، تخفي صحناوي كل أثر الأخبار العنيفة بالبياض وتترك للأحرف السلمية المتشحة بالحبر الأسود، مساحة التعبير. أبيض وأسود أرادتهما الفنانة الشابة المتميّزة شفا غدّار كحقل تجارب مع المواد والمضامين. «تجمع هذه السلسلة بين الإيماءات التي استكشفتها بشكل متكرر خلال عملي على الأسطح. تجسيداً لأثر أو محو، لغطاء أو بصمة».
ومن مرحلة التكوين الخزفي عند فتال مروراً باختبارات الهامة لشفا غدّار إلى آثار التقسيم الداخلي ورفض التقاتل عند صحناوي، تتصاعد وتيرة الاكتشاف والتحولات والتغيرات، وصولاً إلى «السفر». فيديو تجهيز سمعي- بصري لسيتنيا زافين، حيث الأثر الصاعد من هجرة غير معروفة الوجهة. تربط زافين تأليفاً سمعياً مع الأفلام الأرشيفية للعائلة، «منسوجة عبر قطع/ أجزاء بصرية من ذاكرة تدميرية. فنجد الطفولة كشاهدة على الزمن، غير محرومة من الفوضى والتقلبات» بحسب كلمات البيان الفني للمعرض. ومن الطفولة إلى المراهقة حيث تلتقط رانيا مطر ــــ بكثير من الشغف ـــ صور مجموعتها الفوتوغرافية داخل غرف المراهقات، حيث كل تفصيل سرٌّ مقدس: فيه الشهواني والطوباوي، البريء والجريء. غرفٌ تكاد تختصر عوالم اللاوعي والوعي عند كل أنوثة مرّت أو بقيت في المراهقة.
فتال الفريدة تعجن «القِدَمَ» وتنفخ فيه روح «الآن»

والأسرار المقدّسة لا تقف عند حدود المجموعة الفوتوغرافية لرانيا مطر (صدرت بصيغة كتاب)، بل تمتد إلى تجهيز فوتوغرافيّ تعدى المراهقة إلى بلوغ الهُوية الأنثوية. ها هما «جان ومورو» في end- to- end- encrypted... عنوان يكفي لإيصال المضمون الأولي، فهنا العلاقة خاصة. لكن عرضها يجعلها علنية قابلة للتشارك أو القراءة. إذ تضع رندا ميرزا ولارا تابت خيارات من صور خاصة حميمة للثنائي كل على حدة غالباً. العلاقة بينهما قائمة عن بعد كما تشير الصور والبيان. هي حال الكثير من علاقات اليوم، حيث التكنولوجيا تفي بغرض إظهار صورة الشريك، أو رسائله، نقاشه صوته.. وهنا في هذا العرض بكل «سرية» الـend- to-end- encrypted وبكامل استعراضية المعارض البصرية، تدوِّن الفنانتان مسيرة علاقة مستمرة، عرضُها يستمر ما بقيت العلاقة. ما يدفع المتلقي إلى السؤال عن ماهية الحميم وماهية الاجتماعي المتشارك في ظل الحياة الرقمية القائمة، وزوايا كما أبعاد الحميمية ــ المتشاركة. حميمية تنتشر في سياقات متعددة، منها الطقوس اليومية التي تكشف عنها تانيا طرابلسي في السلسلة الفوتوغرافية «وحيدة»، حيث تتماشى قوة التأليف البصري مع المضمون والتقنية التصويرية العالية الجودة.
نتوقف لنسأل أكثر عن هذه الخيارات البصرية المجتمعة التي قدمتها «غاليري تانيت». يأتي الجواب عبر كتابة ميساء رحال مديرة الغاليري التنفيذية: «هذا الخيار يدور حول مواضيع عدة: الحياة المرحلية الراهنة، المعاشة، المطوّرة والمقدّمة من قبل هؤلاء السيدات، تدريجاً، عبر فرادة ممارساتهن الفنية». ثم تفصل رحّال التقسيمات: «في القسم الأول، هناك السيدات الرائدات، اللواتي لاحقنَ شغفهن نحو المغامرة، السفر والاكتشاف. في عصر كانت فيه هذه المصطلحات مجرد أحلام غير ممكنة. الزهور في الأرجنتين، الطبيعة الصامتة والشعوب الإتنية في أعمال بيبي الزغبي من جهة. الجبال، الأشكال والشعر في أعمال إيتيل عدنان من جهة أخرى. أعمال تشهد على تجوال الفنانتَين ومسيرة كل منهما بين الشرق الأدنى والغرب.
هيلين الخال التي تمتد مسيرتها من لبنان إلى الولايات المتحدة، لاعبة على الشفافية، وعلى الـ «ما بين» اللونين، تقف لوحاتها في مواجهة لأعمال فلافي عودة، بعد عقود عدة. عودة تقدِّم تفكُّراً طوباوياً مستقبلياً عبر أعمالها الزجاجية والشكل واللون حيث نجد مجدداً اللعب على الشفافية». وتكمل رحّال: «هذا العالم الطوباوي يرى النور عبر أعمال سامية عسيران التي، تبعاً لتجربتها في اليابان خلال الستينيات، ترسم رحلة/ سفراً نحو مناظر الحلم والخيال، مضخمة من خلال رهافة التقميشة التي تمتد على هذه الأعمال. التقميشة، الدقيقة بشكل استثنائي، المعقدة والمستفزّة، تظهر في أعمال هوغيت كالان البيوغرافية-الذاتية. وهي أيضاً المكتشفة، الرائدة في الفن الشهواني في العالم العربي».
تتسع المروحة إذا، ويبقى السفر رابط الكل. هنا المرأة «حياة» تجهيز متحرك لشيرين أبو شقرا. لعبة/ دمية شبه ميكانيكية، طولها يقارب الـ 160 سنتم. تلبس الأسود، وحقيبتها جاهزة للانطلاق. تقدم أبو شقرا سلسلة تأليفات متينة وذات بنية بصرية صلبة كما اعتدناها منها. ثم هناك عمل لتمارا السامرائي، يعود لمعرضها عام 2014 حيث لمسات الأكريليك المترددة تظهر بوضوح، وهو عمل غير مكتمل يفوق المترين، إلى جانب مجموعة صور بعنوان «290 شارع لبنان» لكارولين تابت وجوانا أندراوس نشرتهما كمونوغراف عام 2010.
لكن حضور الرائدات لا يكتمل إلا مع منحوتات من مجموعة خاصة للراحلة الكبيرة سلوى روضة شقير. هنا قطع يخفق القلب على وقع نبضها الرشيق المتداخل المفعم بالحياة. منحوتات صغيرة منها البرونزي والخشبي نقف أمامها كمن يقف ليرى كل إمكانيات الشكل وتحولاته وأسفاره في ثوانٍ. نرى لوهلة كل ما تركته لنا هذه العملاقة من أثر عام. ونتذكر قول إيتيل عدنان: «إن العمل العام اللائق والجميل هو عمل ديمقراطي، لأن الإنسان الفقير (مادياً) يمكنه أن يتنزّه في بيئة جميلة فتنشرح أساريره. نحن الرسامون نقوم بعمل نخبوي. ومع ذلك له مكانه لأنه فكري وروحي. ولكننا نحتاج بشدة إلى أعمال عامة».

* «مؤنث بصيغة الجمع»: حتى 4 نيسان (أبريل) ــ «غاليري تانيت» (مار مخايل) ــ للاستعلام: 01/562812