في صباح ١٦ آذار ٢٠١٨، اتصل بي الصديق محمّد همدر ليقول لي إنّه طلب من خالد صبيح وغسّان سحّاب أن يكتبا كلمات عن عماد حشيشو الموسيقي، سائلاً إن كان بإمكاني أن أشارك في هذه التحيّة. عرفت عماد كصديق وكموسيقي عن كثب لأكثر من ١٠ سنوات. أن أكتب عنه يعني زيارة كلّ ما اختبرته موسيقيّاً مع عماد. مجرّد التفكير في الموضوع أرهقني. لذلك، وتفادياً لهذه المهمّة الشاقّة، ولو فضح هذا كسلاً أو نقصاً في الشجاعة عندي، قررت أن أكتب عن لحظة واحدة في حياة عماد. هذه القصّة ليست من تلك الأساطير التي تظهر فجأة خلال جلسات العزاء، فيكون الميت قد أنهى السبعة وذمّتها في حياته، ويأتي الجار معزّياً فيزفّ للعائلة أنّ المرحوم كان قد أسرّ له برغبته أداء مناسك العمرة الشهر المقبل. لا، هذه القصّة حصلت منذ أسبوع، وقد يأتي يوم ليس ببعيد نجد فيه طريقة لاستكمالها.منذ سنتين، حتّى ذلك اليوم الذي غفا فيه خلف مقوده في ٩ آذار ٢٠١٨، كان عماد مسكوناً برغبة شديدة أرسلته في بحثٍ عملانيّ مع عوده. كانت رغبته ليست بالطلب الفريد من نوعه، وهو إيجاد طريقة معاصرة لقول ما يريد قوله موسيقيّاً من خلال آلته. هذا حقّ لكل موسيقي، لكن للأسف، فإنّ محاولة التجديد في موسيقى العرب هي كمحاولة التجديد في أديانهم؛ مهمّة صعبة وعنيفة، وتُواجَهُ بتكفيرٍ من الجموع الوفيّة لعفن جيفها. هذه الرغبة متوقّعة لدى موسيقي كعماد، المتأثّر عميقاً بتجارب مختلفة في الموسيقى العربيّة. كان يرى في عمل أستاذه وصديقه مصطفى سعيد مقاربةً تجديديّةً شاملة، مؤمناً بأن تجربة مؤسّس مجموعة «أصيل» لن تكون لحظة عابرة في حياته، إضافةً إلى جموح الشيخ إمام عيسى في طريقة «ضربه» للأوتار، وغضّ النظر ــ من حينٍ إلى آخر ــ عن النظافة في أداء الأبعاد اللحنيّة على حساب ما هو أهم، ألا وهو العمل الموسيقي بحدّ ذاته. كلّ هذا كان نقطة بداية لدى عماد الذي فُتحت عيناه على احتمالات هائلة، حُرِمَت الموسيقى العربيّة منها بسبب تركيبات جماليّة زائفة آتية من قِيَم القرن المنصرم، وتدّعي فناً لا نجد فيه سوى الطهارة والجمال والهدوء، محاكياً واقعاً لا علاقة له به. لهذا كان عماد يتحمّس عندما كنّا ننهال بأحاديثنا سباباً على هذا الكذب في موسيقات تدّعي تمثيلنا، ورغبته في إيجاد طرق في اللفظ واللحن والجَرْس على العود تشبهه وتشبهنا، مصدرها عشقه لهذه التجارب، وحقده على زيف تلك الطهارة. هذا البحث قد يكون من أصعب الأسئلة المطروحة الآن في جدل التجديد لدى الموسيقيين العرب. ودليلاً على ذلك، كلّما كان يمرّ شهر أو شهران، وعلى مدى آخر سنتين، كان يظهر الحاج مع عوده، بادياً عليه التردّد والحذر، ويقول لي أو لأي من الأصدقاء «ليك اسمعلي هالجملة» ويعزف لحناً مختصراً، متأمِّلاً أن نقول له إنّه أخيراً أصبح على الطريق الصحيح لإيجاد ما أراد. كلّ مرّة كان يعزف عماد لحنه ويسكت، وننظر إلى بضعنا ونقول «لا.. مش ظابطة». علماً أنّ كلّ مرّة كان عماد يقدّم نموذجاً لـ «نتيجة بحثه»، كان السماع له ممتعاً ومطرباً للغاية، لكن كنّا نجد فيه ما نجد في أي تقسيمٍ تقليديّ لعوّاد ماهر كعماد، حتّى إن شخصنة عماد لعزفه كان يحوّل ما هو تقليدي وجميل إلى مثيرٍ وملموس، وهذا شعورٌ نادرٌ في أداء الموسيقات التقليديّة عموماً في هذا الزمن. مع ذلك، لم تكن هذه النتيجة التي كان عماد يبحث عنها. كان يريد أن يرى في عيون سامعيه بريقاً يقول له «وجدتها يا أخو الـ…!!!». سنتان وعماد لم يتوقّف عن قول «ليك اسمعلي هالجملة». لم يملّ أو حتّى يُحزَن من سماع «لا.. مش ظابطة». أليس هذا الدليل الأقوى على صدق عشقه لما يفعل؟ كرجلٍ مغرمٍ بامرأة بسبب خطاياها ومحاسنها على السواء.
مساء ٥ آذار ٢٠١٨، كنّا مع خالد وأحمد وساندي ولارا في الاستديو لدى جواد. وقبل بداية التصوير بثوانٍ، شعرت بيد عماد على كتفي وسمعته يقول «ليك حاج؟ اسمعلي هالجملة». وبدأ بعزف لحنٍ لم يدم أكثر من ١٥ ثانية. كان لحناً معقّداً جدّاً، ليس بتقنيّات العزف أبداً، بل بما يطرح موسيقيّاً، وما يحيلنا إليه من صور من حياتنا اليوميّة، من خلال تقنيات في اللفظ، واستقصاده لجَرْسٍ وأصوات لم أسمعها قبلاً صادرة من عود، إضافة إلى المكوّن الأساس، وهو استخدامه لأبعاد زلزليّة (مسافات متوسّطة) وملوّنة (مسافات كبرى وصغرى) وقويّة (مسافات كبيرة وصغيرة). وكلّ واحدة من هذه المسافات وظّفها من خلال قيم مختلفة، منها تفاصيل أبعادٍ موجودة في مقامات فترة النهضة، ومنها ما لم أسمعه أو حتّى أدرسه من قبل، أقله ليس في هذا الشكل، مع تقنين في الزخرفات، وبساطة في الأداء. أقسم أنّي لم أسمع شيئاً كهذا من قبل. أستدير إليه وأسأله على عجل وبصوتٍ خفيت لا مبرّر له، كمن اكتشف كنزاً: «هل أسمعتها لأحد؟؟ هل أسمعتها لمصطفى؟!». فقال لي «لا بعد.. هذا الشيء من يومين فقط، سأسمعها لمصطفى الجمعة في تمرين أصيل». هنا نسمع لارا وهي تطلب منّا أن نتّخذ مواقعنا استعداداً للتصوير، فأعود لوضعيتي الأساسيّة وعماد جالسٌ خلفي. قبل التصوير بثانية واحدة، أدير رأسي لعماد وأقول له: «وجدتها يا أخو الـ…!!!» وبرقت عيناي.
في اليوم التالي، اتصلت به وحدّدنا موعداً لجلسة سماع وتجريب لنفهم مدى خصوبة ما وجد عماد في عوده. كان الموعد ليل ١٥ آذار، وكان الحديث عبر الهاتف حماسيّاً لدرجة طفوليّة. لم يسمعها مصطفى، ولا خالد، ولا غسّان سحّاب، ولا علي الحوت. سمعتها أنا لأنّ مكان جلوسي في تلك اللحظة في الاستديو صادف مباشرة أمام عماد. رحل عماد قبل لقائنا بمصطفى بأسبوع تماماً. قد نجد مقتطفات لهذه الجملة «النموذج» على هاتف عماد، أو قد يكون قد أرسلها لأحد، كما كان يفعل أحياناً. ولو فقط استطعنا أن نفهم السلّم الذي عمل عليه، نكون قد استفدنا من وأنقذنا ما بذل عليه عماد ساعات وليالي لن تعوّض.
كم هو مليء بالأحداث هذا الأسبوع في حياة عماد. في ٥ آذار ٢٠١٨ وجد داخل عوده أخيراً ما قضى سنتين من عمره باحثاً عنه. في ٦ آذار ٢٠١٨، أنهى تصوير دور البطولة في فيديو لـ «الراحل الكبير»، هو الذي كان يحلم بدخول عالم السينما والتمثيل. في ٨ آذار ٢٠١٨، حصل على تأشيرة دخول إلى مصر التي طوشنا برغبته بزيارتها منذ سنين. وفي ٩ آذار ٢٠١٨ غفا عماد خلف مقوده.