يصعب العثور على سنتمترات ناجية من التنكيل في أجساد معرض «الطوطم والحرام». وإن وجدت في الظاهر، فإنها تحوي عنفاً مبطناً أو تأتي لتشير فقط إلى تشوه ما، في موضع آخر من الجسم. في غاليري «آرت لاب» (الجميزة ــ بيروت)، تتوزّع 11 لوحة لأرمين عابدي. بالألوان الزيتية والفحم، يخط الفنان الإيراني كائنات بشرية مسخية. تكشف الأجساد عن عريها أمام خلفيات داكنة، وتجمع بينها حالات لامعقولة تخضع لها.
لن يمنع الزائر نفسه، أمام اللوحات، من القيام ببعض التعبيرات العصبية، كإطباق الفكين. كأنما القسوة التي يخبئها أرمين، وتلك التي يجاهر بها تبدو نتيجة لشيء ما ألم بالجسد. داء غير فيسيولوجي.
نظرة ما أصابت الجسد ربما. احتمالات كثيرة ستتبدى، وهي لن تبدّل شيئاً مما نراه، على الإطلاق. إنها نتيجة صادمة وفجّة، يلوي فيها الفنان بعض الأعضاء. يستبدل رأساً بدمامل نافرة. يقتلع الأعين. يضاعف أحجام الأجسام بأورام وكتل لحمية، يذكّر بعضها بالدمى المشوّهة للفنان الألماني هانس بيلمر.
في بعض لوحاته، يعرّض أرمين شخوصه لوضعيات شاقّة، كأن يتدلى جسد من شجرة. وفي أخرى، يتبع طرقاً ملتوية لبلوغ القسوة والتعبير عنها. ولعلّ هذه اللوحات التي يلجأ فيها أرمين إلى أسلوب واقعي في رسم الأجساد، هي الأقوى، حيث اكتمال الجسد ما هو إلا غلاف لندبة أعمق. وبهذا ستبدو القسوة مضمرة، وأكثر غرائبية وتأثيراً. هذا ما نشاهده في لوحة Unforgiven، التي تقف فيها فتاة، تغطي صدرها بيد، وتنظر بوجه ممحي إلى الأمام. لكنها تنظر بعينيها المقتلعتين. عنف مراوغ كهذا يتسرّب كغاز مميت وغير موجع، تماماً كما يمكن لأفكار مؤسسات المجتمع والدين والإعلام أن تتسرّب إلى مسامات الجلد، مخترقة تلك العلاقة الحميمية جداً بين الجسد ورأس صاحبه. لا يخفي الفنان الوجود الوحشي لهذه المؤسسات وتأثيرها على الحضور الجسدي. ثمة إحالات لرموز من القصص الدينية، وأيقونات الميديا الجماهيرية، والفن الكلاسيكي، مثل آدم وحوّاء وميكي ماوس ومنحوتات ميكلانجلو. وإذا تجاهلنا العلاقة الحائرة مع الذات والنظرة إليها، التي تنسحب على علاقتنا مع الجسم، فإن طرح أرمين يركّز على القوى الخارجية التي تطال الجسد وتحدّه. بعيداً عن البشاعة الطبيعية، تبدو التشوهات التي يرتكبها أرمين بشخوصه نتيجة تحوّل طارئ، أو وضع اجتماعي بسبب العلاقة مع الجسد وإشكالياته الأساسية كالهويات الجنسية. هكذا يرسم تمثال داوود لميكلانجلو الذي نقل فيه فنان عصر النهضة تفاصيل الجسد وجماليته. كل هذه التفاصيل الذكورية للبطل الديني يقابلها غياب للعضو الذكري الذي يستبدله أرمين، في لوحته، بعانة أنثوية. يغيّر الفنان من ملامح النموذج الذكوري المكتمل في تمثال ميكلانجلو الرخامي، أما الرأس فعبارة عن ملصق معوجّ من إحدى المجلات. لعلّ هذه اللوحة أكثر ما يعبّر عن المعرض. من خلالها يتهكّم الفنان على كل ما يثقل الجسد وما يسهم في تصنيفه الجندري النمطي، من الإعلانات التجارية إلى المفاهيم الجمالية التي ساهم عصر النهضة في ترسيخها. مؤسستان، وجد الناقد البريطاني الراحل جون بيرجر رابطاً بصرياً وقيمياً (ذكورية، طبقية، دينية، عرقية) وثيقاً بينهما رغم القرون الطويلة التي تفصلهما. إذ نسخت الإعلانات التجارية بعض القواعد «الجمالية» التي أرستها اللوحات الزيتية والمنحوتات الرخامية حينها، لغايات تسويقية بالتأكيد. الجسد لا يظل محصوراً بحدوده الفيسيولوجية، ولا برغبات أو انكسارات صاحبه الفردية والضيقة. الرسم هنا هو محاولة لترجمة ما يقيّد الأجساد، وما يمنعها، وما يشلّها بفضل تدخّلات كثيرة تتعرّض لها. أكثر ما يفتك به أرمين هي الرؤوس والوجوه. سيترك الأجساد بحالاتها الطبيعية، نقشت عليها بعض الأوشام التي تظهر رسومات وكتابات أسطورية فارسية. هناك مجال وافر للاستطراد في البشاعة في الفن، لكن الأعمال هنا تذهب إلى مكان آخر.

يرسم فينوس منتصبة، لكن بطنها المندلقة، تغطي المساحة الأكبر من اللوحة


عنوان المعرض «الطوطم والحرام»، مأخوذ من اسم كتاب عالم النفس النمسوي سيغموند فرويد. ينبش فرويد التأثيرات الطوطمية، التي ــ رغم أفول المؤسسة القديمة نفسها ـــ استطاعت النفاذ إلى بعض الأنظمة الاجتماعية والدينية الحديثة. ليست في المعرض دلالة واحدة تشير إلى كتاب فرويد سوى العنوان. لكن هذه الأجساد المتراكمة والمنحنية، تصير مكاناً للقاء كل السلطات التي يقع الجسد فريستها. يمدّ المعرض روابط وثيقة مع التيارات الفنية الغربية وخصوصاً النسوية التي نبشت طبقات كثيرة للجسد في الستينيات والسبعينيات ضمن المناخات السياسية والتحررية التي ظهرت حينها، ثم الثمانينيات مع مجموعة الفنانين البريطانيين اليافعين مثل سارة لوكاس وغيرها ممن ألقوا بالجسد في وجه النظرات النمطية التي تتربص به. يأخذ أرمين أجساد موديلاته إلى تعبيرات قصوى. في لوحة «مسخ»، لا يظهر سوى القدمين وطرف التنورة من الجسد بأكمله. هناك دمامل كبيرة في الجزء العلوي، تخفي الرأس تماماً، وتتوزّع عليها بعض الأعضاء مثل الفرج وأشباه الأنوف. تحيل التنورة إلى فترة الحقبة القاجارية في إيران، التي كانت المرأة تشكّل فيها عنصراً أساسياً للتصوير والفنون البصرية كافة. وبهذا تصير لوحته المسخية، وفق طرحه، نوعاً من الإطاحة كلياً بالسمات الجمالية التي كانت تدق كمسامير على أجساد النساء. وإن كان أرمين يحصر الجسد في موقع المتلقي، فإن تلك التشوّهات التي تنبت عليه تصير الطريقة الوحيدة للمواجهة والرفض. هذه البشاعة، تشهر أكثر مما تخفي. تسجّل اعتراضاً، وتوسّع حدود التصنيف، بكل أشكاله. تنتصر عليها معلنة انتماءها إلى أجناس أخرى. هذا ما يفعله مع أحد شخوصه الذكور، الذي يقف بجسد مكتمل بينما تتفرّع من رأسه الدمامل، قبالة كيس النايلون إياه الذي يبدو كتركة المجتمع أو رمزية له ولتدخلاته. يمرّ الفنان، على التصنيفات الكثيرة التي تحيط بالجسد، من بينها ثنائية الجمال والبشاعة. يرسم فينوس منتصبة، لكن بطنها المندلقة، تغطي المساحة الأكبر من اللوحة مقابل انكماش الصدر بطريقة تصنع اختلافاً بينها وبين تماثيل فينوس المعروفة. في الغرفة الداخلية، هناك أربع لوحات بالفحم، بعضها يأتي كدراسات للوحات زيتية كبيرة معروضة في الصالة الأولى. هنا تبرز السمات المشتركة بين الأعمال، التي تتفق على إقصاء الرأس، والوجه، إبقاء الفكين بمفردهما، أو العينين. هذه التشوّهات التي تنمو كفطريات نافرة على سطح اللوحة، تبدو كخيار سياسي للفنان – الذي لا يستطيع عرض أعماله في إيران - يرمي فيه إلى التفوق على الندوب التي تتركها القيود العامة على الجسد المغاير.

«الطوطم والحرام» لأرمين عابدي: حتى 24 آذار (مارس) الحالي ــ «غاليري آرت لاب» (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: 03/244577