مساء الخميس الماضي، أحيا الفنان زياد الرحباني حفلة ضمن «مهرجانات زوق مكايل». التركيبة الأدبية العامة للجملة الآنفة، تشكّل إحدى ثوابت أي مقالة تتناول حدثاً موسيقياً حيّاً. نلتزم من جهتنا بهذه القاعدة، لكن نرغب بالتوقّف عندها قليلاً. أولاً، إنّ أي تغطية لاحقة لحفلة تنطلق حكماً من المقاربتَين التاليتَين (مجتمعتَين أو منفصلتَين) إمّا نقداً وإمّا انطباعات عامّة.
ثانياً، إن أي حفلة، لأي نمطٍ موسيقيّ انتمت، تخضع للمقاربة الثانية المذكورة، لكنها لا تخضع بالضرورة للأولى لأنها تحتاج لأن تكون دقيقة (وهذا غير ممكن دائماً) وشاملة (وهذا لا تتيحه المساحة المخصّصة في الصفحة). وبالمناسبة، نقد حفلة يختلف عن نقد مادّة مسجّلة (أسطوانة)، إذ يستحيل على المرء الإحاطة بكل التفاصيل، وبالأخص متى كانت المادة دسِمَة أو جديدة على المتلقّي، فكيف إذا اجتمعت الحالتان معاً! بالتالي، نحيطكم علماً بأن تناول حفلة زياد في هذه السطور ليس (ولا يمكنه أن يكون) نقداً شاملاً ودقيقاً. برنامج حفلته في الزوق تخلله وابلٌ من التوزيع الموسيقي الجديد، المتين، والعصيّ على الإحاطة، مع أنه طال أعمالاً نعرفها جيداً. ماذا نقول عن «ما تجي» (أدّتها جيداً تينا يمّوت) أكثر من أنها تحوّلت من إبداع لحنيّ (إذ سمعناها مراراً مع مرافقة للبيانو فقط) إلى إبداع فني كامل ونهائي؟ وموسيقى «رمادي عا رصاصي»، ألا تستدعي بعض التروّي قبل وصف تحوّلها من تحفة لناحية بنية التأليف إلى تحفة من كل النواحي؟ وكذلك «بفلّ، إذا بدّك» التي ستستنفد المساحة المخصصة للمقالة إذا دخلنا بالمقارنة بين نسختها القديمة و«النفْضَة» التي أنعشَتْها وبلغَت حدّ إعادة الكتابة… و«يا حسن يا عزيزي» التي حظيت بتوزيع معزّز لتشكّل إحدى أجمل اللحظات في الحفلة، وخاصَّةً أنّ تنفيذها ساهم في جعلها كذلك. أيضاً، هل تذكرون تفاصيل الانفجار الكبير الجديد في ختام «إسمع يا رضا» لنكتب فيه كلمتَين مفيدتَين؟ كل ما يسعنا قوله إنها كانت خاتمة مُحكَمَة وإنها تثبت قدرة زياد على صناعة أجمل الأصوات الآتية من آلات النفخ الخشبية والنحاسية — أين؟ — في أغنية شرقية شبه كلاسيكية!

لا بد من الإشادة بأداء
الفنان حازم شاهين
في هذه الإضافة/ المفاجَأة، «يغازل» زياد الإضافة المفاجِئة التي تتوسّط توزيعه الأصلي للأغنية، أي تلك الصخرة التي رماها المؤلف في مياه الموسيقى الشرقية الراكدة، لتقول للشعوب العربية المُمثَّلة بـ«رضا»: «اسمع يا رضا». في هذا السياق، لا بد من الإشادة بأداء الفنان حازم شاهين في الأغنية المذكورة (إلى جانب ربيع الزهر الذي كان جيداً أيضاً)، كما في غيرها (وبالأخص «حدا من اللي بيعزّونا»)، وأيضاً بأداء المخرجة لينا خوري الموفَّق — بعيداً عن الغناء — لنصوص نشرها زياد في «الأخبار» وللمقدّمة الخاصة بالحدث (تستحق النشر فعلاً).
لن نطيل الكلام عن الأعمال القديمة التي أضاف إليها زياد توزيعات جديدة، رغم أنّ هذا الجانب الفنّي هو النواة الصلبة التي بُنِيَ حولها برنامج «الزوق». سمعنا في الحفلة أيضاً عن أعمال بقيت على حالها تقريباً، وأتى تنفيذها جيداً مثل ”ضيعانو“ و”مقدّمة 83“ و”مش كاين هيك تكون“… ونضيف بالأخص ”إبن الحرام“ (”نفَّد عبكرا“ — من ألحان زياد للطيفة التونسية) التي تستحق المغنية السورية نهى ظرّوف تحية على أدائها النظيف لها. هذا ليس سوى جزء ممّا يمكن الإضاءة عليه إيجاباً في الحفلة. أما الملاحظات السلبية (في ما خصّ التنفيذ الموسيقي طبعاً) فقليلة. بقيت الأمور غالباً ضمن سحر الصناعة الموسيقية الحيّة، باستثناء الخطأ الطفيف (في الغناء) في ختام ”معرفتي فيك“. وفي ”… وقمح“، لم ترْقَ آلات النفخ (لناحية الزخم ليس إلاّ) إلى أداء وظيفتها ضمن مقطوعة أرادها المؤلف رثاءً لحال الشرق الأوسط قبل الخراب الكبير بسنوات، فوظيفة آلات النفخ، هنا، هي الاعتراض الشرس على الحال المزرية.
أما ”ثلاثي (العتابا) المدمّر“ (برجيس صليبا، سليم لحّام وربيع الزهر) فهو اسم على مسمّى، وقد برع في الأبيات المنشورة وتلك الجديدة. لكن حبة الكرز على القالب الفنّي الذي وضعه زياد الرحباني لفولكلور العتابا (ونقصد الفاصل الموسيقي الذي حلّ محل ”الردّية“ ولحنها)، فتمثلت في الكلام الذي رافقه (انتظروا لحظة). لنشرح قليلاً لغير الملمّين بالعتابا: العتابا قالب شعري زجلي، له قواعده، لكنه، اختصاراً، يقوم على اللعب على الكلام. بالتالي، كيف لزياد ألا يعشقه ويكون من أربابه؟! هذا العشق ترجمه في التسعينيات بـ”هدية“ لحبيبة قلبه العتابا، عبر استبدال ”الردّية“ الثابتة التي تلي كل بيت، بموسيقى صامتة من تأليفه. وهذه الموسيقى، بكل تجرّد، استطاعت أن تحل ”مشكلة“ أغفلتها شعوبنا على مدى عشرات السنوات وهي الخلل الكامن بين التحدّي الذي تتميّز به (معظم) أبيات العتابا و”الخمول“ النسبي للحن ”الردّية“. الموسيقى التي وضعها زياد تُبقي الاستنفار على أشدّه… فكيف إذا أضيف إليها الكلام الآتي: ”لا عَالوَاقِفْ لا بِالعَرْض وْلا بِالطُّولْ / مِشْ فَالِلْ مِنْكُنْ وَاحَدْ إلّا مَهْبُولْ / نِحْنَا العَتَابَا فِينَا حَصْراً بِالدَّمْ / وْإنْتُو حَصْراً بِتْرِدُّوا وْنِحْنَا مِنْقُولْ“. هذه الإضافة شكّلت في الزوق مفاجأة ردّ عليها الجمهور طرَباً: ”الله“. أما في إهدن، غداً، فستكون المفاجأة أكبر، والردّ عليها يجب أن يكون — منطقياً — ”الله أكبر“!

زياد الرحباني: 20:30 مساء الغد ــ «إهدنيات» ـ للاستعلام: 01/999666