لن يمرّ غداء عيد الفصح على خير، بعدما تمكنت ربة المنزل جوزفين أخيراً من جمع أفراد عائلتها حول طاولة واحدة. وسط الأحاديث السياسية المحتدمة والنكات والضحك، ستقلب حادثة الأجواء، وتؤدي إلى خلافات وفوضى تصاعدية. تلك باختصار القصة التي تُبنى عليها أحداث فيلم لوسيان بو رجيلي الروائي الطويل الأول بعدما كان عمل على سلسلة من الأفلام القصيرة سابقاً، إلى جانب عمله في المسرح.
بو رجيلي الحاصل على ماجستير في الإخراج السينمائي من «جامعة لويولا ماريماونت» الأميركية، لا يفرّق بين المسرح والسينما كثيراً. منذ المراهقة، بدأ مشاهدة أفلام يعتبر أنها عرّفته على السينما الحقيقية كأعمال برغمان وغودار وتاركوفسكي. لاحقاً، واصل مشاهدة تلك الأفلام الكلاسيكية تحت إشراف المعلم الراحل منير أبو دبس. يخبرنا خلال لقاء مع «الأخبار»: «كنت أفكر أن تلك الأفلام غريبة وبطيئة وصعبة. عندما شاهدتها مجدداً بعد مرور عشر سنوات، فهمتها بطريقة مختلفة. المؤكد أنني الآن أراها أيضاً بنظرة مغايرة. لكن حبي للمسرح والتمثيل بالمطلق، وهو الفن الأول الذي تعلّقت به، جعلني لا أفرّق بين المسرح والسينما. التمثيل هو نفسه. قد تختلف التقنيات من ناحية الأداء، لكن في داخل الممثل، الأمور نفسها موجودة. أنجزت ذات مرة مسرحية انغماسية، عرضتها في «مهرجان لندن الدولي للمسرح» عام 2012، كانت تتطلب مشاركة الجمهور، وكذلك أخرى عن معاهدة «سايكس-بيكو»، حيث جعلت المشاهدين يجلسون على الطاولة مع الممثلين. هذه المسرحيات لا تنجح إلا بهذه الطريقة. كذلك، بعض القصص لا تصلح إلا أن تُخبر من خلال السينما والشاشة. في السينما، يمكنني اختيار الزاوية أو الشخص الذي أريد التركيز عليه، وشعرت أن ذلك كان أساسياً للقصة التي أريد إخبارها في الفيلم. أذكر أن أحد الأساتذة في الجامعة سألنا ما الذي ننوي أن ننجزه بعد التخرج. لم يجرؤ كثيرون على التفكير في الحديث عن فيلم. من جهتي أيضاً، قلت إنني سأنجز بعض الإعلانات بما أنني لم أكن بعيداً عن هذا العالم. لكن قبل أن أنهي كلامي، قاطعني قائلاً لي إن كان هدفك إنجاز الإعلانات، فأنت لست بحاجة الى ماسترز في الإخراج. شعرت أنه على حق. برأيي، يجب أن نفكر أننا نعيش مرة واحدة. على الفنان أن يتوصل إلى حل لإنجاز ما يريده. واليوم أصبح صنع فيلم أسهل بفضل التقنيات الجديدة».
ليس سراً على أحد أن لبو رجيلي جرأة كبيرة وصراحة تامة في طرح المشكلات والمواضيع. لا يبتعد الفيلم عن هذا الاتجاه بحواراته الصريحة والفجة. شعر بو رجيلي أنّ «لا أحد غيري قد يتحلى بالجرأة ذاتها لأنه كان سيواجه خطر المنع. على أي حال، تعرّض الفيلم للقطع في المشهد الأخير. عملت مطولاً لنحو سنتين على النص، وحرصت على أن يكون هناك مشهد طويل في نهايته، يجعل من يشاهده ينغمس مع العائلة في وتيرة تصاعدية من دون انقطاع. ومع أن الميزانية لم تكن عالية، اضطررنا أن نضيف يوماً على التصوير، لأنني لم أكن مقتنعاً باللقطات التي كنّا أخذناها لهذا المشهد في اليوم السابق. فهو يمثل القمة في الفيلم. في دبي حيث نلت الجائزة، تمّ التطرق الى هذا المشهد بالتحديد وهو ما اختار الرقيب هنا أن يقتطعه! وإن لم أقبل أن يُقطع المشهد، فكان الفيلم سيمنع، كما حصل معي في المسرحية الأخيرة التي أنجزتها («بتقطع أو ما بتقطع» ـ 2013). وكان كل من الأمن العام ومكتب الرقابة أصدرا بحقي مذكرة إخضاع منعتني من السفر. الفكرة هنا هي في إخضاعي، ولو بشيء ما، وإن كانت قرارات هذه السلطة بلا معنى وعبثية وغريبة». لم يكن قرار الخضوع سهلاً بالنسبة الى المخرج، خصوصاً لما يمثله هذا المشهد من أهمية في العمل بالنسبة إليه، لكنه اقتنع أنّه في حال لم يقبل الرضوخ، فلن يشاهد الناس الفيلم بالكامل: «والفيلم أهم بالنسبة إليّ من هذه القطعة. من المزعج ما حدث، ولكن يهمني أكثر أن يرى الناس الفيلم. كما أنني ذقت مرارة المنع. تعذّبت بالعمل لسنة ونصف السنة على مسرحية مُنعت في النهاية وأحبطت معنوياتي حتى توقفت عن كتابة المسرحيات. لو مُنع الفيلم، كنت سأتوقف عن إنجاز الأفلام. طلبت أن توضع على الأقل إشارة حيث قطع الرقيب المشهد، لكن طلبي رُفض. فهو ليس قراري الشخصي، ويهمني أن يعرف المشاهد أنني لم أختر أن أقطع هذا المشهد الطويل بهذه الطريقة.

كوميديا سوداء تحمل الكثير من المكبوت في عقل الشخصيات
الخطورة تكمن في أن هذه السلطة لا تريد أن يطلع الناس على الأمور التي تنجزها وأن تظهر فقط الجانب الإيجابي لها. لم يقطع المشهد في دبي مع أن الفيلم يحتوي على أمور معينة قد لا تمرّ جيداً. سيُعرض في بلدان عربية أخرى مثلما هو. لست سعيداً بالخضوع، لكني فعلت ذلك لكي يتمكن الناس من مشاهدة الفيلم».
ينتقل الحوار بين الشخصيات من موضوع الى آخر، لكن من دون أن يفقد تماسكه. يشرح بو رجيلي أنّ «الفيلم يملك وحدة المكان والزمان وهما يمسكانه جيداً. تقنياً، لا يمكن استكشاف مواضيع معينة إلا بهذا الشكل. أحببت إنجاز فيلم يشبه الواقع اللبناني على عكس ما نراه في التلفزيون أو في بعض الأفلام التي لا تمثل ما نعيشه حقاً. من المهم فنياً وثقافياً أن ننظر الى الواقع والى باطنه في يومياتنا. الأشياء التي أثارت ضحك الجمهور في الفيلم خلال العرض الأول، هي في الوقت عينه مرّة. إنها كوميديا سوداء. قال لي بعضهم إنني جعلتهم يفكرون مطولاً. وهو ما أريده. أن يترك الفيلم المشاهد مع أسئلة. لا أعتبر أن الجمهور متلقّ للعمل الفني، بل هو مشارك فيه. وأنا متأكد من أن كل شخص سيرى الفيلم بطريقة مختلفة بحسب حياته اليومية وعمره، وما اختبره شخصياً. لا يهمني تقديم أفكار معلّبة للناس. لا أحد يستمتع بهذه الأمور بل على العكس. المؤكد أن الفن يجعلنا نستمتع، ولكن الأهم أنه يجعلنا نفكر. الفيلم الناجح في نظري، هو ما يتذكره الجمهور بعد أسبوع». قد تكون مشاهد الفوضى والصراخ من اللحظات المزعجة في الفيلم، كما الضجيج حول المائدة، لكن للعمل أيضاً لحظات صمته. هناك المباشر وغير المباشر كذلك. بحسب بو رجيلي «إن دققنا في ما يقال في الفيلم، هناك الكثير من الأمور التي تُقال ما بين السطور والكثير من المبطن والمكبوت في عقل الشخصيات». اختار بو رجيلي العمل مع ممثلين لا يملكون خبرة ويظهرون على الشاشة للمرة الأولى: «أحب العمل مع أشخاص يدخلون عالم التمثيل للمرة الأولى. أجمل اللحظات هي اكتشاف هذا الشغف وعدم الخوف من الاختبار. بعد تجارب عدة، قد يبدأ الممثل بالخوف من ردة فعل المشاهد، وقد لا يملك الجرأة نفسها. كما أن المشاهدين لا يعرفون أياً من الوجوه. لذا سيصدقون أنها عائلة فعلاً. قد يكون العمل مع أشخاص غير محترفين أصعب، لكنني تمكنت من الذهاب أبعد مما قد أصل إليه مع شخص يملك خبرة، خصوصاً في ما يتعلق بهذا الفيلم».

«غداء العيد»: بدءاً من يوم الخميس في الصالات اللبنانية