لم تتوقف ملاحقة القضاء اللبناني لأهل الإعلام عند ادعاء النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، الأسبوع الماضي على هشام حدّاد (الصورة)، بطلب من النائب العام التمييزي القاضي سمير حمّود، على خلفية تناول ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وأمين عام تيّار «المستقبل» أحمد الحريري، في حلقة 2 كانون الثاني (يناير) الماضي من برنامجه الساخر «لهون وبس» (الثلاثاء ــ 21:30 على lbci).
آخر فصول هذه الممارسات كانت دعوة «مجلس القضاء الأعلى» إلى ملاحقة حدّاد، بسبب تطرّقه إلى أداء حمّود في أحدث حلقات برنامجه الساخر القائم على النقد الممزوج بالتهكّم والهجاء. وفي بيان أصدره أوّل من أمس، اعتبر المجلس أنّ الحلقة المذكورة تتضمّن «تعرّضاً لشخص النائب العام التمييزي، إثر قيامه بدوره الوظيفي المنصوص عنه قانوناً»، موضحاً أنّ الأمر «يسيء إلى السلطة القضائية وسمعة القضاء وهيبته»، طالباً من النيابة العامة التمييزية تحريك الدعوى العامة وفقاً للأصول، كون هذا الفعل «يمسّ بالقضاء... إحدى ركائز دولة القانون».
أثار القرار حفيظة شريحة كبيرة من اللبنانيين، وسط تخوّف من تحوّل هذا الأداء إلى «قاعدة» تُستخدم لخنق السلطة الرابعة. تعليقاً على الموضوع، أصدرت «مهارات»، أمس الجمعة بياناً أكدت فيه أنّ ما يحصل يعدّ «تقييداً لحرية الإعلام في مجتمع ديمقراطي»، مشدّدة على أنّ السلطة القضائية «تؤدّي وظيفة عامة في خدمة دولة القانون، وهذا الامتياز العام لا يجعل أداء السلطة القضائية بمنأى عن النقد والتداول من قبل الصحافة والإعلاميين والبرامج التلفزيونية». وفي الوقت نفسه، أشارت المؤسسة المعنية بتعزيز حرية الرأي والتعبير إلى أنّ الإعلام هو «ركيزة النظام الديمقراطي، وفقاً للفقرة (ج) من مقدّمة الدستور اللبناني، كما أنّه حاجة ضرورية للمجتمع لمناقشة قضايا الشأن العام، ووضعها في متناول وحكم الجمهور بواسطة أشكال التعبير المختلفة، حتى الفكاهية منها ذات الطابع الفني، وفقاً لأحكام المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». بناءً على ذلك، أوضحت «مهارات» أنّ الإعلام «يشكّل مساحة للحوار بين الآراء المتناقضة ومنبراً للتنوع وحرية الرأي والتعبير وتداول المعلومات»، ثم ختمت بدعوة السلطة القضائية «المؤتمنة على صون الحريات العامة على ضرورة تقبّل النقد في إطاره الواسع المطبّق على الأعمال الكوميدية».
في النصّ المنشور على موقعها، ذكّرت «مهارات» بنقطة مهمّة كانت «الأخبار» قد أشارت إليها الأسبوع الماضي، تتعلّق برفع سقف الحرّية للأعمال الكوميدية، سنداً إلى الحكم الصادر عن محكمة استئناف بيروت الجزائية، برئاسة القاضية فريال دلول، في 14 تشرين الأوّل (نوفمبر) 2012، في قضية الإخلال بالآداب العامة على خلفية العرض المسرحي Halleluiah It’s Raining الذي قُدِّم عام 2009. يومها، أُسقطت التهم الموجّهة إلى الممثلَيْن اللبنانيَيْن، إدمون حدّاد وراوية الشاب، بعدما أكّد الحكم أنّ للعروض الكوميدية «هامشاً واسعاً للتعبير، ويتم تفسير القيود الواردة على التعبير بشكل أضيق عندما يطال الفن. كما اعتبرت المحكمة أنّ الدافع الكوميدي لتلك الأعمال يؤدي الى انتفاء النية الجرمية طالما أنّها جاءت في إطار الغاية الأساسية من العرض المقدّم».
لكن بما أنّ قدرة البعض في السلطة القضائية على تقبّل النقد والفكاهة معدومة، من المفيد التذكير ببعض النماذج الغربية بما أنّها تتباهى بمنسوب الحرية العالي الذي تتمتع به مقارنة بدول الجوار. استعادت «مهارات» في بيانها تأكيد «المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان» في قضايا مختلفة مرتبطة بأعمال إبداعية (فنية وإعلامية) أنّ «السخرية شكل من أشكال التعبير الفني والنقد الاجتماعي، وبطبيعة الحال، فهي من خلال سماتها المتأصلة في المبالغة وتشويه الواقع، تهدف إلى الاستفزاز والإثارة». هكذا، تصبح هناك ضرورة لدرس أي تدخّل في حق الفنان في مثل هذا التعبير «بعناية»، خصوصاً «إذا أتى على خلفية نقد أو نقاش عام». أشهر المنازعات التي تمّت أمام هذه المحكمة في حالات مشابهة، هي القضية التي رفعها ألفيس دا سيلفا ضدّ بلده البرتغال، وانتهت بتبرئة المدّعي عام 2009 لأنّ «أفعاله كانت لغايات هجائية، وبالتالي فهي شكل من أشكال التعبير الفنّي والتعليق الاجتماعي». وكان ألفيس دا سيلفا قد وُجِد مذنباً في بلاده بسبب تنقّله في كرنفال مرتدياً دمية تصوّر عمدة مورتاغوا مع رموز فساد، إضافة إلى بث رسالة ساخرة، مصوّرة مسبقاً، تفيد بأنّ الرجل حصل على أموال غير شرعية.
وفي كلّ الوقائع القضائية المماثلة، تذكّر المحكمة بمبادئ أساسية تلحظها المادة العاشرة من القسم الأوّل من «الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان»: «لكل إنسان الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء وتلقي وتقديم المعلومات والأفكار، من دون تدخل السلطة العامة». إلا أنّ هذه الحرّية ليست مطلقة، إذ تنص المادة نفسها على أنّها «تتضمن واجبات ومسؤوليات. لذا يجوز إخضاعها لشكليات إجرائية، وشروط، وقيود، وعقوبات محدّدة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي، لصالح الأمن القومي، وسلامة الأراضي، وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة، وحماية الصحة والآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومنع إفشاء الأسرار، أو تدعيم السلطة وحياد القضاء».
أما في الولايات المتحدة التي تكاد تنفلق من كثرة برامجها الساخرة، التي تُستوحى منها غالبية الأعمال المشابهة في محطاتنا، فيمكن القول إنّ السقف أعلى. «الهجاء ليس مجرّد ترفيه. إنّه ضروري في المجتمعات الديمقراطية، وطريقة لكسر المحظورات، خصوصاً في أوقات الأزمات». هذا ما تؤّكده صوفيا مكلينن، أستاذة الشؤون الدولية والأدب المقارَن، ومديرة «مركز الدراسات العالمية» في «جامعة بنسلفانيا». وتضيف: «غالباً ما يكون الهجاء القوي علامة على وجود أزمة، فيما القدرة على مشاركته وتقبّله فدليل على وجود مجتمع حرّ». ومن المعروف أنّه منذ القِدم، يتشارك الفنانون الساخرون هدفاً واحداً: «فضح الحماقة بكلّ أشكالها، وبكل ما فيها من غرور، ونفاق، وتعصّب، وعنصرية... وبالتالي الدفع باتجاه تغيير ما. قانونياً، يعتبر الهجاء والمحاكاة الساخرة محميّين بموجب التعديل الأوّل لدستور الولايات المتحدة، الذي يكفل حرّية التعبير والمعتقد والمطالبة بالحقوق، فيما يكاد لا يخلو أي برنامج ساخر من انتقاد لاذع لشخصيات عامة ومشاهير، على رأسهم رئيس البلاد.