منذ سنة ونيف، انطلقت الزيارات الميدانية التي أجرتها جمعية «مارش» إلى عاصمة لبنان الثانية: مدينةٌ سطت عليها براثن التطرف والأصولية. هكذا، بكل بساطة «دُمِغت» طرابلس من دون البحث في خلفيات هذا التطرف. ربما ينسى بعضنا أنّ في تلك المدينة، يعيش ستون في المئة من المواطنين في فقر مدقع. كان لا بد إذاً من البحث عن صورة مغايرة لـ «طرابلس الأصولية»: «حب وحرب على السطح»... من سطوح باب التبانة وجبل محسن إلى خشبة «مسرح المدينة».
في هذا العرض الذي أخرجه لوسيان بو رجيلي (1980) وقدِّم مرة واحدة قبل شهر في المسرح نفسه، سوف نشاهد ستة عشر شاباً وشابة من هواة التمثيل... ليس هذا فقط، ربما تكون تلك المسرحية الأولى التي يشاهدونها في حياتهم أيضاً. شباب بعضهم شارك في القتال على جبهتي جبل محسن وباب التبانة اجتمعوا على خشبة واحدة وخضعوا لتمارين لمدة أربعة أشهر. لم يكن ذلك سهلاً. من تجارب الأداء التي لم تكن لتتم لولا تعاون ثلاث جمعيات أهلية طرابلسية وصولاً إلى يوم العرض الأخير. «ارتأينا التأني والسير خطوةً خطوة لنكسب الأرضية وثقة السكان» تذكر ليا بارودي المنسقة العامة لجمعية «مارش» التي تعاونت أيضاً مع «مجلس شباب التبانة» و«جمعية لبنان المحبة» في جبل محسن و«أكاديمية شباب القبة». مئة شاب وشابة خضعوا لتجارب أداء إلى أن وقع الاختيار على الممثلين النهائيين للعرض.
ركز المخرج والكاتب اللبناني لوسيان بورجيلي في اختياره على عنصر الخيال والمرونة لدى الممثلين الذين تم اختيارهم. تشير ليا بارودي إلى أنّ «أغلب الممثلين تركوا المدرسة ولم يكملوا تعليمهم. جميعهم عاطلٌ عن العمل وأغلبهم شارك في أعمال عنف».
بعكس واقعهم البائس، كانت مشاهد العرض تمتد في قالبٍ كوميدي «بيراندللي» النفَس (نسبة إلى المسرحي الإيطالي لويجي بيرانديلو). يغوص المشاهد في لعبة «المسرح داخل المسرح»: هنالك مخرج يمرّن مجموعة من الشباب من باب التبانة وجبل محسن على تمثيل عرض يتحدث عن قصة حب تجمع عائشة السنية بعلي العلوي. يذكر بورجيلي أنه عمل جاهداً على تبسيط الأمور لدى تعامله مع هؤلاء الشباب. لم يرد أن يخيفهم من المسرح، فابتكر نصاً سهلاً واعتمد على تركيب أدوار لا تتطلب جهداً فائقاً وكان الهدف الأساسي هو خلق تفاعل ورابط بين شباب باب التبانة/ جبل محسن، وهذا ما تمّ رغم حصول بعض التوتر والتشنج في البداية... كما كل البدايات.
تذكر ليا بارودي أنّ فريق العمل شهد «في الأسابيع الأولى غياب كثيرين أو عدم الالتزام بالمواعيد، ناهيك عن عدم إيمان الشباب بالمشروع، وعدم أخذه على محمل الجد وعدم رغبتهم في التواصل مع الطرف الآخر. لكن بعد تطور المشروع وتطور علاقتنا بالممثلين، تغير الواقع رأساً على عقب».

مشاهد تمتد في قالبٍ
كوميدي ضمن لعبة «المسرح داخل المسرح»

يرى بورجيلي أنّ المسرح هو «الفن الأكثر فعاليةً في ما يتعلق بحل النزاعات، فهو يحتم تفاعلاً حقيقياً» يفرض تحقيق حد أدنى من الانسجام مع الآخر، وإلا لا يمكن لطرفين متنازعين أن يقفا على الخشبة ويتواطآن معاً لإضحاك الجمهور. بالتزامن مع التمارين التمثيلية، شارك الشبان والشابات في جلسات عدة تنمّي مهاراتهم في التواصل والقيادة وحلّ النزاعات، كما التقوا بممثلين محترفين كنادين لبكي، وريتا حايك، وجورج خباز وأخذوا بنصيحتهم. تشير ليا بارودي إلى أنّ الممثلين «اكتشفوا جوانب من شخصيتهم كانوا يجهلونها. اكتشفوا مواهب مخفية كانت كامنة فيهم. وقبل أن يتصادقوا معنا، تصادقوا مع بعضهم بعضاً، وبات أعداء الأمس أصدقاء اليوم». تمت ترجمة ذلك على الخشبة في تلقائية أداء معظم الممثلين وعفويتهم.
إلا أنّ كل تلك الإيجابيات لم تمنع من وجود ثغرة في معالجة النص: قد ينطلق المؤلف أحياناً من كليشيه قصة حب بين طرفين متنازعين ليضيف بعداً آخر على العلاقة التي تجمع هذين الطرفين، ويغوص أكثر في أسباب نزاع باب التبانة وجبل محسن مع الحفاظ على القالب الكوميدي. كانت المواقف متوقعة واحتاجت حبكة العرض إلى مزيد من التمتين ليس لأهداف فنية ومسرحية فحسب، بل أيضاً للدوافع الاجتماعية التي دعت إلى تلك المبادرة. إذا أردنا أن نكسر نمطية «تطرف مدينة طرابلس» لا نستطيع اللجوء إلى صورة تفوقها في التنميط وتبقى على الهامش. مع ذلك، بقي الضحك سيد الموقف: بخل لوسيان بورجيلي علينا بحبكة متينة، لكنه كان فائق السخاء في التقاط القفشات المضحكة.

«حب وحرب على السطح»: 20:00 مساء الثلاثاء 28 تموز (يوليو) و7 آب (أغسطس) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ــ للاستعلام: 01/208101 أو 78/836788




مقهى وسمَر

تسعى جمعية «مارش» إلى تأمين استدامة واستمرارية للمشروع المذكور عبر تأسيس مقهى ثقافي جرى الحديث بشأنه مع الفعاليات الطرابلسية. تقول ليا بارودي: «أبدت هذه الفعاليات تجاوباً مع الفكرة، على أن يتسلم إدارة المقهى هؤلاء الشباب بأنفسهم. وبذلك، نكون قد حللنا جزءاً ولو بسيطاً من البطالة التي يعانون منها. علماً أنه عندما يبصر المقهى النور في طرابلس، سيستضيف سهرات غنائية وفكاهية وحتى مسرحيات وغيرها من النشاطات الثقافية والفكرية».