مع بدء عرض The Post (إخراج ستيفن سبيلبيرغ ــ 115 د)، عاد مفهوم الـ whistle-blowing (تسريب المعلومات) إلى الواجهة، وعادت معه النقاشات حول مدى قانونيّته، ومشروعيّته، إضافة إلى واقع حرّية الصحافة في الولايات المتحدة، حيث يشنّ الرئيس دونالد ترامب حرباً ضد وسائل الإعلام، تُقلق كثيرين من وقوع سيناريوات مأساوية قد تهزّ بعض «الثوابت» في أبرز دول «العالم الحرّ».
الشريط الهوليوودي الذي وصل إلى الصالات اللبنانية بعد تردّد أنباء على السوشال ميديا حول احتمال منعه، يعود إلى عام 1971، محتفياً بالمحلّل العسكري في وزارة الدفاع الأميركية، دانيال إلسبيرغ، مسرّب «أوراق البنتاغون» التي أثبتت أنّ الإدارة الأميركية في عهد الرئيس ليندون جونسون كذبت منهجياً على الرأي العام وعلى الكونغرس بشأن الدور الذي لعبته في حرب فيتنام، ورفض الرئيس ريتشارد نيكسون نشرها بذريعة أنّها «قد تضرّ بمصالح الأمن القومي». يسلّط العمل الضوء على دور «واشنطن بوست» في الكشف عن هذه الوثائق، فيما يلعب توم هانكس دور «بين برادلي»، رئيس تحرير الصحيفة الأميركية، وتؤدي ميريل ستريب شخصية ناشرتها «كاي غراهام». تحدّى هذا الثنائي الحكومة الفدرالية في ما يخص حقّهما في نشر تسريبات إلسبيرغ الذي يجسّده ماثيو ريس.
في ظل احتدام الجدل حول الـ whistle-blowing، أجرت الـ «غارديان» البريطانية، أخيراً مقابلة مع أشهر مسرّبَيْ معلومات في التاريخ الحديث: دانيال إلسبيرغ (1931)، ومُحلل نظم المعلوماتية السابق في «وكالة الأمن القومي» الأميركية (NSA) إدوارد سنودن (1983). وُصف الأوّل بـ «أخطر رجل في الولايات المتحدة» من قبل إدارة نيكسون في السبعينيات، فيما اعتبر ترامب أنّ الثاني «خائن رهيب»، داعياً إلى إعدامه!
على مدى ساعتين، أدار إوين ماكاسكيل الموجود في لندن حواراً ثنائياً مباشراً مع إلسبيرغ في كاليفورنيا وسنودن في موسكو، تناولوا فيه الأخلاقيات، والإجراءات العملية، والناقشات الداخلية المؤلمة المرتبطة بالـ whistle-blowing، وكيف أنّ لـ The Post اليوم صدى خاصاً في عهد ترامب.

حاور إوين ماكاسكيل
إلسبيرغ في كاليفورنيا
وسنودن في موسكو


لا يخفي الثنائي تخوّفهما من اعتداءات ترامب على الصحافة، واحتمال مواجهة أهلها بلوائح اتهامات للمرّة الأولى في تاريخ البلاد، كما أنّهما يحثّان جيلاً جديداً من مسرّبي المعلومات على العمل فوراً من داخل البنتاغون والبيت الأبيض لوقف أي نيّة أميركية لمواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية.
أما عن اختلاف الـ whistle-blowing بعد 40 عاماً من خوضه هذه التجربة بواسطة آلة تصوير ونسخ أوراق من طراز xerox، يشدّد دانيال إلسبيرغ على أنّ إمكانية الحصول على كمية هائلة من المعلومات (ونشرها) التي استفاد منها سنودن أو تشيلسي مانينغ (1987)، الجندية السابقة التي نفّذت أكبر عملية تسريب وثائق سرية في تاريخ الولايات المتحدة عبر موقع «ويكيليكس»، كانت مستحيلة بالنسبة له: «بات من الأسهل اليوم كشف الحقيقة، واحتمال كشف الفاعل صار أقل ممّا كانت عليه قبل عقود».
وفي هذا السياق تحديداً، كان لا بد من الإشارة إلى أنّه كان بإمكان سنودن أو مانينغ العمل بمفردهما، وهو ما لم يكن متاحاً إطلاقاً بالنسبة لإلسبيرغ الذي احتاج إلى فريق من المتطوّعين الموثوقين والكتومين.
لا شكّ أن هناك سبباً أساسياً يدفع المرء إلى الإقدام على خطوة كبيرة كهذه. «لم أكن لأفكّر في مسألة قد تكلّفني السجن مدى الحياة، لولا وجود أميركيين شباب خلف القضبان بسبب معارضتهم للحرب على فيتنام... الشجاعة مُعدية»، يقول دانيال إلسبيرغ الذي يؤكّد إدوارد سنودن أنّه كان مصدر إلهامه.
يرى الرجلان أنّ الخطر الذي يشكّله دونالد ترامب على الحرّية أكبر بكثير من خطر ريتشارد نيكسون، فيما يلفت دانيال إلى أنّ الرئيس الحالي يبني على ما بدأه سلفه باراك أوباما الذي قاضى صحافيين «أكثر بثلاث مرّات من أسلافه مجتمعين». ولا يمكن التطرّق إلى الـ whistle-blowing من دون ذكر مؤسس موقع «ويكيليكس» جوليان أسانج، اللاجئ في سفارة الإكوادور في لندن. هنا، يسارع سنودن إلى التأكيد أنّ «القرصان» الأسترالي «في خطر»، لأنّه في حال فكّر في الخروج من مكان إقامته، من المرجّح أن تسلّمه بريطانيا فوراً إلى الولايات المتحدة، حيث سيكون «أوّل صحافي يواجه بلائحة اتهامات».
وفي نهاية المقابلة الغنيّة، يحرص دانيال إلسبيرغ على تشجيع عشرات الشباب الموجودين في أروقة وزارة الدفاع الأميركية وغيرها من المؤسسات الرسمية على التحرّك مباشرة عبر الإنترنت، قبل أن يؤكّد أنّه غير نادم على ما قام به في بداية السبعينيات رغم كثرة التحديات: «سبق لسنودن ومانينغ أن قالا إنّ هناك أموراً تستحق الموت أو السجن من أجلها، وهذا ما شعرت به سابقاً وأشعر به اليوم.... يكفي أن نقتنع بما نقوم به وبأنّ أثره سيكون كبيراً على التاريخ وحياة الملايين»!