شهادات | أمضيت السنوات الأخيرة في صحبة عصام العبدالله، وأقول في رعايته. كنت ألتقيه مرتين في اليوم، وإذا غبت لطارئ أو غاب أحد غيري، سأل عنه وسأله عن سبب غيبته، فعصام هو مرجع الشلّة وهو مسؤول اللقاء، الذي يبدو في أحيان كأنّه من تأليفه أو نسقه. فهو بالتأكيد عائلته الثانية وجماعته إذا جاز التعبير. ذلك أني لم أعرف شخصاً كعصام أقام من الرفقة حياة كاملة، ومن الصداقة حياة يوميّة بل لا أعرف شخصاً مثله جعل من الحياة نفسها فنّاً.
عصام العبدالله يعطي الحياة حقّها، فكل ما وجد وما حدث سبب لمتعة وسبب لتسلية. كانت الحياة بالنسبة لعصام لعباً فذّاً، تمضي يوماً بيوم من متعة إلى متعة. الرفقة متعة والوحدة متعة والسهرة متعة كما النوم. هكذا كان عصام يدلّل الأشياء وتدلله الأشياء، فهو أبداً مدلل الكون وهو الذي جعل من الكلام والرواية والحديث والإصغاء لذّة. لقد جعل لكل ّيوم برنامجاً وصيغة يمضيهما خليّ البال، عارياً من الهموم. في كون منذور للشقاء، استطاع عصام أن يجعل منه إجازة أو نزهة، فكان على نحو أو آخر سعيداً وأليفاً ولا تستفزّه الحياة أو تملؤه رعباً وفظاعة. كانت الحياة عادته التي تربّى عليها وألفها وألفته، فلم يكن للموت مكان لكنّه، مع ذلك، كان محسوباً، على الدوام، ومؤجّلاً بالقدر ذاته.
لا نستطيع أن نتكلّم على عصام العبدالله من دون أن نتكلّم على شعره الذي كانت تلاوته في بعض تضاعيف السهرة عندما يخطر لشاعره الذي بحسب روايته نظمه من الذاكرة، وبقي من ذلك الحين في ذاكرته. كان محل تقاطع بين الفصحى والعاميّة وكانت تلاوته في بعض فسحات السهرة إحدى متعه ومتعنا معه. كان هذا الشعر بالمحكيّة اللبنانيّة، لكني لا أظنّ أنّ عربياً، مهما يكن مصدره، يفوته أن يفهمه أو يتعثّر بمعانيه ومفرداته. كان انتقال عصام العبدالله إلى الشعر المحكي أحد إشراقاته، بل أحد تجلّياته. لقد انتقل الى المحكيّة عن طريق الشعر نفسه، الشعر الذي يسبق اللغة، وفيما هو يصنع ذلك، يؤلّف لنفسه لغة. كان شعره على هذا النحو محل تقاطع بين الفصحى والمحكيّة، كأنّه هكذا قبل اللغة أو بعدها. هذا ما جعل الشعر عند عصام العبدالله، لا يكتب فقط بلغة وسطى، بل إن هذه اللغة المقتلعة من اللغة هي وبدرجة أو أخرى محكومة بعيار الشعر. وهي هكذا موقوفة على الشعر نفسه. هكذا كان عصام ينظم قصائده من كلام وجد للشعر أو جعله هو كذلك. ربّما من هنا سلاسة هذا الشعر وطلاوته وقابليته لأن يلامس الأسماع، خاصّة إذا تذّكرنا إلقاء عصام الذي يقرأ شعره كأنّه يتذوّقه أو كأنّه يتحسّسه. يقرأه بشهوانيّة لا تلبث أن تنتقل إلى سامعيه، فيتلذّذ هؤلاء ويتذوقون الكلام والإيقاعات والقوافي.
شعر عصام على هذا النحو يندرج في المحاولة اللبنانيّة لتوليد شعر من المحكيّة لا يصدر عن التراث الزجلي. كانت هذه المحاولة تقوم عند ميشال طراد مثلاً على توليد موسيقى خاصّة بالعاميّة. محاولة عصام كانت تقوم بموازاة الفصحى وتماثل تجربتها في تجديد الشعر وخاصّة في قصيدة التفعيلة.
توقف عصام العبدالله عن الشعر في سنواته الأخيرة. لقد ألّف الشعر في رأسه وهو يقود السيّارة أو يتمشّى. كان الشعر آنذاك طريقة للعيش، وحين لم يعد كذلك انصرف عنه.
الآن غادرنا الّذي كان عمود اللقاء ولا ينعقد اللقاء بدونه. انفرط اللقاء أياماً لكنه عاد على مهل. غياب عصام جعلنا نكتشف أننا نشكلّ شيئاً، لنسمه لقاء. سنجتمع على وداع عصام، وكنّا من أسبوع التقينا على وداع الشاعر الزجلي خليل شحرور الذي لم يكن فقط من أهل اللقاء، بل كان إلى جانب ذلك مثلاً للدماثة والشهامة. إلى أين ستنتهي بنا الوداعات، أم أنّنا كلّ مرّة نودّع أنفسنا؟