دمشق | يقتحم محمد عبد العزيز السينما السورية، من منطقة تجريبية مغايرة، بذهنية تتطلع إلى صوغ صورة مضادة، تستنفر الحواس. يطيح مركزية الحكاية، محوّلاً إياها إلى وحدات سردية متجاورة ومتوازية، إلى أن تكتمل جداريته البصرية المشبعة بالضوء والاحتمالات.
في شريطه الجديد «حرائق» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما)، يواصل الاسلوبية نفسها التي استخدمها في فيلمه «الرابعة بتوقيت الفردوس»، لجهة تشظي السرد، والاعتناء بالهامش، وتحطيم الحبكة، لكن بخيوط وخطوط متماسكة أكثر، وحفريات سيسيولوجية تنطوي على أسئلة جوهرية في أسباب الحريق وتبعاته، والعسف الذي يحيق بالمرأة، على نحوٍ خاص.
هنا تتسلل العدسة إلى أماكن ومصائر بشر هامشيين، يقبعون في الظل، أو يغوصون في القاع، يعيشون على تخوم الحرب، كضحايا نموذجيين لعنف مزدوج. عنف القتل، وعنف الأعراف الذكورية التي تضغط على الأعناق بشفرات حادة. أربع نساء في مهبّ الحرب، تعصف بأقدارهن ريح عاتية، تخنق تطلعاتهن إلى أوكسجين آخر. لن نجد فرقاً واضحاً بين ما يحدث في مدجنة، وما تعيشه «وداد» (نانسي خوري)، المذبوحة بعتبة زواج قسري من سائق شاحنة في المدجنة، وانتظار عودة حبيبها الغائب بمكالمات صعبة نظراً لضعف التغطية، فتضطر إلى صعود سلالم عالية على أمل التقاط شارة البث، والنجاة من «عرس الدم». في موازاة ما يحدث في مسلخ الدجاج بكوادره المدهشة، نتعرّف على «خولة» (رنا ريشة) الخارجة من سجن النساء للتو، بعدما فقدت زوجها على يد شقيقها، بسبب زواجها، رغماً عن رغبة العائلة. وها هو شقيقها يطاردها في شوارع دمشق ثأراً لشرف العائلة المهدور. في سكة ثالثة للسرد، نتتبع حكاية متطوعة في الهلال الاحمر السوري (جفرا يونس)، لتتناسل حكايات الخطف والفزع وحطام البشر والأمكنة من جهة، وخذلانها كعاشقة محبطة لرسّام غارق باللون الأحمر في مشغله، وتخليه عنها، بعد حملها منه، من جهةٍ ثانية. وسوف يغلق القوس بمشروع انتحارية (أماني إبراهيم) وقعت في مصيدة جماعة تكفيرية، إلى أن تتمكّن من الهرب في اللحظة الأخيرة، رافضةً تفجير حزامها الناسف وقتل بشر أبرياء، مقابل الذهاب إلى الجنّة للقاء طفليها هناك.
هكذا تهبّ الحرائق الأنثوية من الجهات الأربع، إلى أن تلتقي في معظمها، عند نقطة مركزية هي سينما مهجورة، تحولت إلى ملاذ لعائلات مهجّرة. تلجأ خولة إلى صالة السينما للاختباء من شقيقها، وإلى اجراء مكالمة مع أمها كي تلتقي بطفلها بعد غياب، فتكتشف حياة صاخبة داخل هذا المكان الغرائبي المغلق. كأن جوهر السرد يكمن هنا، في صالة السينما كملاذ آمن، داخل هذه البيضة العملاقة، أشرطة قديمة، وبكرة تدور خارج مواعيد العرض، ولافتات لشعارات قديمة وباهتة في عمق الصالة، وملصقات، وأفلام كرتون، وأغانٍ هندية، وبشر مخذولون، في أقصى حالات العدمية، إلى أن يتمكن العاشق (مازن الجبة) من خطف حبيبته من المدجنة، والالتحاق بعائلته التي تقيم في ركن من الصالة، بمباركة من الأب (محمد قزق) الذي بدا كأنه شخصية عبثية خارجة من مخزن أحد الأفلام.
حياة مثل السينما، لفرط تنويعات القسوة والانتهاك واللذة. سوف ننسى ما يدور في الخارج من اسباب العنف، وننخرط في «ذلك السحر الخفي للسينما»، وتلك اللطخات من «سينما براديسو» بدمغة محليّة، وغرائبية مناخات أمير كوستاريكا، وشاعرية محمد ملص، ووحشية عدسة عمر أميرلاي. هذه الإحالات الخاطفة، أتت من باب التحية لهؤلاء كصانعي جمال وبهجة. فالسينما ــ وفقاً لهذه الرؤية ــ هي عزاء روحي وفسحة طمأنينة، وخلاص من أثقال العنف والهمجية والزيف. ما يحسب لهذا الشريط، عدا فتنته البصرية وكوادره المحكمة، هذا المزج بين قصص متنافرة، ووضعها في إطارٍ واحد، مستفيداً من جماليات الموزاييك الدمشقي في بناء مشهديته المبهرة، والاشتغال على بنية اللون، في المسافة الفاصلة بين نزيف الدم، والأصباغ. يلطّخ الرسّام جداريته باللون الأحمر كموقف نقدي مما يحدث حوله، لكنه في أول مواجهة حقيقية مع معضلته الشخصية، يندحر متخاذلاً، ويطلب من حبيبته اجهاض الحمل لعدم جاهزيته للزواج، وفي المقابل تعبث وداد بأحمر الشفاه، فتلطّخ فمها، قبل لقاء عريسها المزعوم، بضغط من الأم، كما لو أنها ذاهبة إلى مأتم. هكذا تغرق الشخصيات في نفق اللحظة الراهنة، تحاول أن تهرب من أقدارها بسلالم مكسورة نحو الضوء، تنجو حيناً، وتفشل طوراً، في خنادق متقابلة، فوق خريطة ممزّقة، وحرائق جهنمية، فالأنثى هنا ذبيحة مؤجلة، تخنقها أقفاص الأعراف الظلامية، مثلها مثل الدجاج في المسلخ، على بعد نطق مبتور لعبارة «الله أكبر» من السكين. هذا الثراء البصري حصيلة تراكم معرفي في المقام الأول، وتشريح منهجي للقهر، وقبل ذلك، نتاج ورشة عمل، أفرزت ممثلين هواة، لم يسبق أن وقفوا أمام الكاميرا. وإذا بالارتباك واللعثمة تصبح جزءاً من تركيبة الشخصية، خصوصاً، في أداء مؤتمن عيسى التي لعبت دور «أم وداد» بفطرية ومهارة لافتتين، وأماني إبراهيم في دور «مروة» المرأة المفخخة، ونانسي خوري في تجربتها السينمائية الأولى الآسرة، كما لم تغب عن الشريط اللمسة الوثائقية التي تسرّبت بنعومة نحو الفضاء التخييلي، مثل مشاهد المسلخ، والمدجنة، وصالة سينما السفراء، والحواجز الأمنيّة، وساحة المرجة، والقصر العدلي، بالإضافة إلى الاتكاء على وقائع جرائم شرف معروفة. نخرج من عتمة الصالة مثقلين بساعتين ونصف الساعة من الوجع السوري المتراكم في الصدور، كما سنهنئ أنفسنا بأن هناك أملاً، بمن يعرف «كيف يروي حكاية» بكل هذه الفتنة.