أربعون عاماً تفصل بين الشابة مريم صالح (1985) والمخضرم أحمد عدوية (1945)، لكن العقود الأربعة التي تضرب لنفسها موعداً في حفلة «مريم تغني عدوية»، لم يختلف بمرورها الكثير في حال التلقّي للظواهر غير الكلاسيكية في الأغنية العربية. ما زال الصوت الذي يُسمّى رومانسياً هو المحتفى به من شركات الإنتاج، والصوت الشرقيّ المسمّى «أصيلاً» تقتصر عليه خشبات الأوبرا.
أما الأصوات الحادة، غيرالمألوفة، والأداء الحرّ والكلمات «الناشزة»، فما زالت خارج جنة «الفن الجميل». لا تزال «ظواهر» لا يقبلها المجتمع إلا بعد أن تثبت قدرتها على النفاذ إلى جوفه والتأثير فيه، فيقبلها مرغماً ويبقيها في خانة غير محسومة، بين «الظاهرة» و»التجربة» و»المشروع».
ربما لهذا استبقت مريم رأي النقاد والجمهور معاً، فأعلنت منذ لحظتها الأولى «أنا مش بغنّي»، أولى أغنياتها التي قدمت عبرها لما سوف يلي من «مشروعها». لا يزال الرأي النقدي غائباً إلى حد كبير عن متابعة مريم كما نظيراتها التي تأتي هي في صفّهن الأول. جيل من «بنات» الأغنية المصرية الجديدة لحناً وأداءً وكلمات. «أنا نص نص/ أنا بذرة بذرة وفص فصّ»، كلمات تبدو غريبة، فليس غريباً أن تأتي إلى بيروت هذه المرة مغنيّة كلمات عدوية الأغرب «السح الدح امبو».
«السح الدح امبو» صنعت شهرة عدوية بدايات السبعينيات. في أحد الأعراس الشعبية غنّاها وانطلق. كلمات لا معنى لها بذاتها، لكنها كانت آنذاك – نهاية عصر كبار الطرب الأصيل – علامة على رغبة في غناء آخر، سرعان ما اتضحت كلماته واكتسبت معاني مفهومة، لكنها ظلت غريبة عن الفن «الرسمّي». «البدر ساكن فوق وانا اللي ساكن تحت، بصيت لفوق بشوق، مال قلبي وانجرحت، يا اهل الله يا للي فوق، ما تبصوا على اللي تحت، وللا خلاص اللي فوق مش داري باللي تحت، طب حبة فوق، وحبة تحت»، كلمات استمدها عدوية من الحارة المصرية السبعينية، حيث لم يعد «الشعبيّ» آنذاك هو محمد رشدي ولا مواويل حسن ونعيمة، بل صارت أغنيات حارة «الانفتاح» التي عبّرت عن لحظة وسيطة بين زمن الغناء «الأصيل» والتعبير عن «زمن الصنايعية» الانفتاحي، أي اللحظة التي صعد فيها التاجر والسبّاك والبائع، على حساب المعلّم والطبيب والموظف. رسم ذلك شكل الأغنية «العدوية»: غناء سليم الأداء وكلمات شديدة الغرابة. كان حسن أبوعتمان شاعر أغنية عرباوي لمحمد رشدي هو المصدر الأساس لكلمات عدوية وأغنياته الأشهر، من «سلامتها أم حسن» إلى «زحمة يا دنيا زحمة». وكان حسن أبو السعود، بالأورغ الشهير خاصتّه هو الملحن الأهم. لم يمنع ذلك عدوية من اللجوء إلى آخرين من آن إلى آخر ولو من باب المزاح، كما في أغنية «كركشندي دبح كبشه» للشاعر الكلاسيكي كامل الشناوي، أو لهاني شنودة ذي المزاج الغربي ملحناً في «زحمة». لكنّ الأبوين أبو عتمان وأبو السعود ظلا عماد مشروعه كلمات وألحاناً.

يكتب ميدو زهير كلمات
أغنياتها، وتختار من قصائد
الشاعر مصطفى إبراهيم

أما مريم صالح، فعماد كلماتها الشاعر ميدو زهير. منذ بدئها بتقديم أغنياتها الخاصة، كتب لها ميدو علاماتها الغنائية مثل أول نجاحاتها «وطن العك»، وكذلك أول كليباتها «إصلاحات»، فضلاً عن «طول الطريق». لا يمنع ذلك مريم من الاستعانة بكلمات الشاعر مصطفى إبراهيم فتغنّي «حصر مصر» و»سرعة الأيام». ثمة فارق مهم هنا بين زهير وإبراهيم، فالأول شاعر غنائي في الأساس غنّت له معظم الفرق الجديدة في مصر. أما بالنسبة إلى مصطفى إبراهيم، فإنّ مريم هي التي تختار الكلمات من دواوينه المنشورة. أياً كان، فالكلمات هي جزء من تجربة مريم. أما إطار التجربة، فهو موسيقاها التي تضعها بنفسها؛ غيتارها الرنان وصوتها الحاد وأداؤها كما تقول فهي «مش بتغنّي». معظم التجارب الشابة في مصر تمزج الروك بالشرقي، لكن مريم تكاد تكون الأنجح في صياغة ذلك «المزيج» ، كيف يمتزج الروك والغيتار إذن بغنائها «عدوية»؟ هذا ما تجيب عنه حفلتها في «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت) عند العاشرة من مساء الغد وبعد غد. لكن ثمة ما يطمئن إلى نجاحها مسبقاً، فقد فعلتها بنجاح قبلاً مع موسيقى الشيخ إمام، صوت آخر ظل إلى النهاية متمرداً خارجاً عن المنظومة.

«فرح» مريم صالح تغني عدوية: 22:00 مساء الغد وبعد غد ــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 76/309363