«يكثرون الحديث عن الحرب العسكرية، مدركين أنها ستقع إن لم يكن اليوم فربما بعد قرن، وربما بعد ألف عام. حتى ذلك الحين، قد يأكل الصدأ ترسانة الأسلحة». الكلام قاله أحد الزملاء، قبل أن تهطل أسئلته بغزارة: «لماذا نتحدث عن سرقة الاحتلال للأرض مهمشين أهمية سرقته للذاكرة؟ ولماذا لا نتحدث عما يأكله ويشربه ويسمعه وكيف يعيش مواطنوه؟ وما ينتجه أو يسرقه هؤلاء من موسيقى وأدب (وحمص مثلاً)؟ عندما يأتي ذلك اليوم، ماذا ستنفعنا ترسانة أسلحة صدئة؟ وإن أتى قبل ذلك وهزمناه، كيف سيكون شكل حضارتنا وثقافتنا ووعينا؟».
هل يمكن لأحد أن يجيب عن هذه الأسئلة؟ التي نخال في حالة كهذه أنها تشبه «ثقباً أسود»؟ علماً أن مراكز عربية وفلسطينية كثيرة تحاول أن تترك أثراً لها في هذا المجال، لكن سعيها للإجابة، ومع كل الجهد المبذول مقابل ما يبذله باحثون إسرائيليون، أقرب إلى كونه «سلحفاة» تشارك في مارثون لأبطال سباق الركض.
الأسئلة المُلحّة تنسحب بالأساس على السياسيين، والباحثين، والأكاديميين، والروائيين، والصحافيين، وغيرهم من المثقفين من فلسطيني الـ48. هم المعنيون مباشرة، كونهم باتوا بفعل تمسكهم بالأرض وبقائهم فيها، مواطنين بدرجة ثانية، ورأس الحربة الذي يُصارع المحتل بهدف الحفاظ ليس على المسكن فقط، وإنما على الرواية الفلسطينية، وتجديدها. كل ذلك لأن الأجيال المستقبلية بحاجة إلى ذاكرة، فالتعامل مع مشروع إسرائيل، لا يجب أن ينطلق فقط من أن الاخيرة كيان كولونيالي احتلالي، وإنما لأنها قامت على قاعدة سلب الآخر وتجريده من ذاكرته وتاريخه وتشويه وعيه، قبل أن تحرمه أرضه وخيراتها. تجليات ذلك لا تقف عند حد يكون فيه مشروع إسرائيلي متكامل (القوة الخشنة والناعمة)، مقابل شعب مُحتل ومن دون مشروع تحرري، وإنما تمتد حتى انخراط مثقفين من فلسطينيي الـ48، في المشاركة في مؤتمرات وندوات إسرائيلية من بينها تلك التي تبحث في مجالات الأمن القومي! كل ذلك تحت شعار «الخصوصية» التي تمنحها «مواطنة» هي منقوصة أساساً. وبذلك يتحول هؤلاء إلى شهود زور، على ماضي ومستقبل شعبهم.
ضمن هذه «الحفلة التنكرية»، تشارك «نُخب وطنية»، من صحافيين فلسطينين معروفين، في مؤتمر «مصادر حيّة - الصحافة كمرجع لدراسة التاريخ العربي». المؤتمر سيعقد في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، برعاية معهد «ترومان لتعزيز السلام»، و«الجامعة العبرية» في القدس المحتلة، ومشروع «جرايد».

العصابات الصهيونية أجبرت الفلسطينيين على سرقة الكتب لصالحها

ليس هذا فحسب، بل إنّ الراعي الرسمي للحدث هو واحد من الصروح الثقافية الإسرائيلية التي شُيّدت في نهايات القرن الـ19، أي قبل احتلال فلسطين: «المكتبة الوطنية الإسرائيلية». وللأخيرة باع طويل في سرقة الكنوز الأدبية والارشيف والدراسات والصحف الفلسطينية، وفي مقدمتها مكتبة الأديب الفلسطيني، خليل السكاكيني، وألبومات المصوّر الفلسطيني خليل رصاص، لا سيما تلك التي وثّق فيها يوميات مقاومين قاتلوا العدو إبان النكبة.
هذه السرقات التي لاحقت الفلسطينيين حتى في شتاتهم، لتطاول «المركز الفلسطيني للدراسات» في بيروت، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، لم تقتصر على الفلسطينيين فقط، وإنما أتت على مقتنيات حملها يهود اليمن معهم خلال هجرتهم إلى فلسطين المحتلة، ومن ضمنها كتب توارة وأسفار دينية يعود عمرها إلى 500 عام.
فقد تحدثت صحيفة «هآرتس» قبل يومين عن رسالة دكتوراه للباحث الإسرائيلي، غيش عميت، يوثق فيها شهادات يهود يمنيين سُرقت أملاكهم من كتب وغيرها من المقتنيات، خلال سنوات الـ40-50، وهي موجودة داخل المكتبة الوطنية. إذ وصل هؤلاء عبر الجو والبحر بعيد النكبة، وقال لهم المسؤولون في معسكرات استيعاب المهاجرين الجدد، إن «أغراضهم ستصل لاحقاً». وقد وصلت بالفعل عبر تهريبها من اليمن إلى المكتبة، وليس إلى يد ورثتها الحقيقيين، من العائلات اليمنية.
سرقة 30 ألف كتاب ونهب المقتنيات والكتب من بيوت الفلسطينيين عامة والقدس خاصة، ومن ثم أسرها في «المكتبة الوطنية» تعتبر واحدة من أفظع الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية. فهي لم تسرق هذه المقتنيات وتحرم أصحابها منها فحسب، وإنما جمّعت الشبان الفلسطينيين خلال النكبة وطلبت منهم المشاركة في هذه السرقة! تماماً كما تفعل اليوم عندما تهدم بيوت الفلسطينيين وتجبرهم على دفع تكاليف هدم بيوتهم!
معروفة هذه المكتبة التي كشفت قبل أعوام عن «سر» امتلاكها مجموعةً من المخطوطات الإسلامية حصلت عليها كـ «هبة» من العالم اليهودي، أبراهام شالوم يهودا، وهو من أوائل الباحثين في الشأن الإسلامي في بدايات القرن العشرين. بين المجموعة المؤلفة من 1184 مخطوطة قديمة، مئة مصحف يعود أحدها الى القرن التاسع، واثنان الى القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وموطنها الأصل هو أنطاليا، والأندلس، وبلاد فارس. ولم تقتصر السرقة عند هذا الحد، بل شملت قبل ذلك «مجموعة تيجان دمشق»، وهي عبارة عن مخطوطات باللغة العبرية سُرقت من العاصمة السورية قبل أعوام، وتعتبر ملكاً للدولة السورية، مثلما تعتبر الدولة اليمنية الوريثة الشرعية لأقدم توراة جرى تهريبها مؤخراً مع «آخر دفعة من يهود اليمن وصولوا لإسرائيل».
مع ذلك، يبدو أن جرائم المكتبة الوطنية التي كُشف النقاب عنها لا تكفي لردع بعض المثقفين والصحافيين الفلسطينيين عن المشاركة في مؤتمرها. هي عندما تدعو الصحافي المعروف وديع عواودة (من جريدة «القدس العربي»)، أو نظير مجلي (رئيس تحرير صحيفة «الاتحاد» الحيفاوية، سابقاً)، أو الإعلامية المعروفة، مقبولة نصار، وغيرهم، من أجل المشاركة في أنشتطها لا تهدف طبعاً لنيل خبراتهم، ولا أن تزيدهم خبرة. وإنما كي يشارك هؤلاء في إضفاء الشرعية على إجرامها، خصوصاً أنهم يعتبرون الضحية، مقابل الجلاد.