في غرفة داخل بيت «مانشن» (زقاق البلاط)، يضع نجا الأشقر جزءاً من أرشيف «نادي لكل الناس»، آملاً أن يجد له مقراً ثابتاً قريباً. وإلى أن تتيسر الظروف لذلك، سيصبح أرشيف النادي ووثائقه متاحة أمام الزوار من الباحثين والطلاب في «مانشن».
لم يكن هذا الأرشيف مجمّداً يوماً. الأهم من حفظ الذاكرة هو مشاركتها وتسهيل الوصول إليها. أفلام النادي تعرض في بيروت والمناطق اللبنانية طوال العام، وخارج أطر المهرجانات. وقد وصلت إلى خارج لبنان أخيراً، حين أقام النادي بالتعاون مع «جمعية النهضة العلمية والثقافية ــ جيزويت القاهرة» في مصر، «أيام الفيلم اللبناني» مستضيفاً أفلاماً للجيل التأسيسي للسينما اللبنانية المستقلة: جان شمعون، وبرهان علوية، وجوسلين صعب، ورندا الشهّال ومارون بغدادي. كما أن عروض فيلم مي المصري الروائي الأول «3000 ليلة» في المخيمات الفلسطينية أخيراً، بحضور المخرجة، لاقت اهتماماً لافتاً اضطرهم إلى إعادة عرضه كما في مخيم برج البراجنة. الفيلم الذي عرض لمدة قصيرة في الصالات اللبنانية العام الماضي، اختاره «نادي لكل الناس» ليفتتح «أيام السينما اللبنانية المستقلّة» الذي ينطلق اليوم حتى 23 تشرين الثاني (نوفمبر) في «مترو المدينة».
حاول النادي اختيار مجموعة من الأفلام التي أنتجت في السنوات الأخيرة، ولم تعرض في الصالات لفترة طويلة مثل «عصفوري» لفؤاد عليوان، و«طالع نازل» لمحمود حجيج، و«انسان شريف» للمخرج جان كلود قدسي.
«الحمرا لا تشهد عروضاً سينمائية كثيرة» يقول الأشقر، قبل أن يضيف: «الأفلام الأربعة التي اخترناها لم تعرض هنا بعد». خطوة تبدو كاستكمال للعروض التي أطلقها «نادي لكل الناس» في «مترو المدينة» قبل أعوام، بعرض فيلم كل شهر من أرشيف السينما اللبنانية والعربية، قبل أن تنتقل العروض إلى مقهى «ة» حالياً. يأتي مهرجان «أيام السينما اللبنانية المستقلّة» رغبة من النادي في «الإضاءة على الأفلام اللبنانية المستقلة التي لا تأخذ حقها في العروض التجارية»، وفق الأشقر مضيفاً أنها «محاولة دعم للمخرجين الذين سيحضرون العروض أيضاً».
بعدما دخلت معاناة الشتات الفلسطيني من باب الأفلام الوثائقية مع زوجها الراحل جان شمعون، وفي تجارب فردية، تتمسّك المخرجة الفلسطينية مي المصري بالمعاناة الفلسطينية ضمن خطاب نسوي يمنح المرأة البطولة. أدوات الإخراج الوثائقي حاضرة في «3000 ليلة» (103 د ــ 2016). لجأت المصري إلى قصص وتجارب حقيقية لمعتقلات فلسطينيات، وإلى محطات تاريخية كمجزرة صبرا وشاتيلا والاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تبدو كمحرّك أساسي في الفيلم.

في جعبة النادي أسبوع استعادي لأفلام الراحلة رندا الشهال

يروي العمل قصة اعتقال المدرّسة ليال عام 1980 لمدة ثماني سنوات في سجون الاحتلال. معاناتها الفردية تبدو جزءاً من معاناة أشمل للسجينات الأخريات، فتحضر قضايا الأم والمرأة المناضلة التي شاهدناها في أفلام المصري التسجيلية. الموعد الثاني على البرنامج هو «عصفوري» (2003) لفؤاد عليوان. للمخرج اللبناني تجربة مريرة مع الصالات التجارية في لبنان. سحب الفيلم من العرض بعد أيام على طرحه، لا لسبب سوى أنه لم يشهد حضوراً كثيفاً، أي أنه لم يحقق أرباحاً بحجم التوقعات. هكذا اختار النادي عرض الفيلم الروائي الطويل الأول لصاحب أفلام قصيرة مثل «شوق مريض لوطن مريض» و«هوا بيروت» و«إلى اللقاء». يرتكز الشريط إلى ثلاثة أزمنة أساسية في التاريخ اللبناني، ما قبل الحرب وخلالها وما بعدها، أي فترة إعادة الإعمار كما شاع اسمها الملتبس. الرابط بين هذه المراحل هي بناية أبي عفيف في منطقة الصنايع، التي يسعى كريم لترميمها بعد غياب طويل خارج البلاد. قصة حب بين كريم ومايا تظللها أحداث أكبر منهما. أحداث الإعمار والسمسرة والمتاجرة بالتاريخ وبالهوية اللبنانية العالقة بين الأحلام وبين قبضات التجار. اليوم الثالث سيعرض «طالع نازل» (2014) لمحمود حجيج. باكورته الروائية الطويلة اللافتة، تضاف إلى أفلام المخرج اللبناني القصيرة الأخرى التي تصل إلى ثلاثين فيلماً روائياً قصيراً ووثائقياً.
تدور لقطات الفيلم القريبة بمعظمها في فضاءات مغلقة وداخلية، بين عيادة نفسية في بيروت، والمصعد المؤدي إليها. على مشارف السنة الجديدة تصير زيارة العيادة طقساً ملحاً. ترتسم حالة القلق العامة على وجوه الأبطال السبعة (عايدة صبرا، وزياد عنتر، وديامان بو عبود، وحسام شحادات وندى أبو فرحات وحسان مراد ويارا أبو حيدر)، أمام طبيبهم (كميل سلامة). ينصرف المخرج إلى ما هو أكثر حيميمة في حديث وحركة الشخصيات التي تعيش بين الواقع وداخل فقاعاتها الخاصة. القيود العامّة (يعبر عنها المخرج في مشاهد بانورامية لبيروت) تتداخل مع القيود الفردية التي تكبل الشخصيات، ضمن لغة سينمائية تقحم المشاهد في هذه الورشة النفسية القائمة. تختتم العروض مع «إنسان شريف» (90 د ــ 2011) لجان كلود قدسي. رغم أن أحداث الفيلم الروائي الثاني للمخرج اللبناني ــ بعد «آن الأوان» (1994) ــ تجري داخل المجتمع الأردني، إلا أنها تحمل إشكاليات ومآزق العالم العربي بأكمله. جريمة شرف مفترضة، تحرّك الأحداث وتثبت للجميع بأن إبراهيم قتل اخته بعدما رآها مع رجل. تظن عائلته لفترة طويلة أن ابنها توفي أيضاً. أيّ من القصتين ليس صحيحاً. انتقل الشقيقان إلى بلدين مختلفين. يبقى ابراهيم أسيراً لتردّده وأسئلته طوال إقامته في لبنان، قبل أن يقرر كشف الحقيقة ومواجهة عائلته. اختار قدسي ظاهرة جرائم الشرف المنتشرة بشكل واسع في الأردن ليسائل دوافعها ونظرة المجتمع إليها، وثنائية الضحية والجلاد. مع اختتام المهرجان، لا تزال هناك مشاريع كثيرة لدى «نادي لكل الناس» خصوصاً العام المقبل الذي يتزامن مع الذكرى العشرين لتأسيسه. يطلعنا الأشقر على بعض المواعيد المنتظرة، أهمها «مهرجان الفيلم العربي القصير»، وأسبوع يستعيد أفلام المخرجة اللبنانية الراحلة رندا الشهال (1953 ـــ 2008)، بالإضافة إلى فعاليات أخرى سيشارك بها النادي في الخارج.

«أيام السينما اللبنانية المستقلّة»: ابتداء من اليوم حتى 23 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 03/888763