باريس | يكاد المعلم الفرنسي ميشال بيكولي (1925) يختزل بمفرده تاريخ السينما الأوروبية. على مدى سبعة عقود، ارتبط اسمه بأجيال عدة من عمالقة الفن السابع الأوروبيين، أمثال جان رونوار، ولوي بونويل، وجان - لوك غودار، وأنييس فاردا، وكوستا غافراس، وماركو فيريري، وكلود سوتيه…. كما اشتهر بحرصه على المشاركة في أعمال عدد بارز من السينمائيين الوافدين، الذين احتضنتهم القارة العجوز، كالبولندي جيرزي سكوليموفسكي، والتشيكي جيري فايس، والمصري يوسف شاهين، واللبناني مارون بغدادي، والايراني فيري فرزانه، والعراقي هينر سليم، والجورجي أوتو إيوسلياني.
واكب بيكولي مختلف المدارس والتيارات السينمائية في موطنه فرنسا وفي إيطاليا التي تتحدر منها أصول عائلته. ارتبطت بداياته بموجة السينما الاحتجاجية ذات النبرة اليسارية، من خلال أعمال لوي داكان، الذي اكتشفه ضمن فرقة «مسرح بابل»، ومنحه أول أدواره على الشاشة الكبيرة، عام 1949، في فيلميه المرجعيين «انبلاج النهار» و«عطر المرأة المتشحة الأسود». ثم عاصر أقطاب «الواقعية الاجتماعية» الأوروبية، خلال الخمسينيات، عبر أعمال جان رونوار (French Cancan – 1954) ورينيه كلير («المناورات الكبرى»/ 1955) ولوي بونويل («الموت في هذه الحديقة»/ 1956 ــــ «يوميات خادمة»/ 1963 ـــ 23/11 ـــ س:20:00)... قبل أن ينخرط في حراك «الموجة الجديدة» الستينية، ليصبح إحدى أيقوناتها الأبرز. بدأت مسيرة رفقته الطويلة مع قدامى مجلة «دفاتر السينما» بـ «الاحتقار» لجان لوك غودار (عن رائعة ألبرتو مورافيا الروائية الشهيرة ــــ غداً ــ س:20:00). الفيلم كرّس بيكولي في مصاف عمالقة الفن السابع، عام 1963. ثم جاءت أعمال أنييس فاردا («سلاماً أيها الكوبيون»/ 1963، «المخلوقات»/ 1965، «مائة ليلة وليلة مع سيمون سينما»/ 1994)، وألان رينيه (انتهت الحرب/ 1965)، وكلود شابرول (العشرية الاستثنائية/ 1971، و«الزفاف الأحمر»/ 1972)، وصولاً الى كلود سوتيه، الذي منح بيكولي الأدوار الرئيسيّة في عدد من أفلامه الأبرز، كـ «أشياء الحياة» (1970 ـــ 24/11 ـــ س: 20:00)، «سيزار وروزالي» (1972 ـــ 22/11 ـــ س: 20:00)، «فانسان، فرانسوا، بول والآخرون» (1974 ـــ 26/11 ــ س: 20:00)، و«مادو» (1976).
لكن الرفقة الطويلة التي جمعت بيكولي بأقطاب «الموجة الجديدة» لم تمنعه من الانخراط في تجارب ومدارس فنية أخرى. فقد ارتبط اسمه أيضاً، هو المعروف بمواقفه اليسارية، بـ «السينما الملتزمة» التي شهدت أوج ازدهارها في النصف الثاني من الستينيات وبداية السبعينيات. شارك بيكولي في بطولة أفلام ملتزمة عدة، من أبرزها «عربة القتلة» (كوستا غافراس – 1965)، و«التفجير» (إيف بواسيه - 1972).
في الفترة ذاتها، ارتبط اسم بيكولي بتيار «الواقعية الجديدة» في بلده الثاني إيطاليا. بدأت تجربته الإيطالية بـ «عذارى روما» لفيتوريو كوتفافي وكارلو لودوفيكو براغاغليا (1961)، و«خطر: شيطاني» لماريو بافا (1968)، ثم تكرست من خلال أفلام المعلم الكبير ماركو فيريري، الذي منح بيكولي عدداً من أدواره في روائع شهيرة، كـ «ديلنجر مات» (1968)، و«الجلسة» (1970)، و«ليزا» (1971)، وصولاً الى «الخبيصة»، الذي لا يزال ماثلاً في ذاكرة عشاق السينما بوصفه الفيلم الذي أثار الفضيحة الأشهر في «مهرجان كان السينمائي»، عام 1973. يومها، صدم الجمهور والنقاد بنبرته الاستفزازية ونقده اللاذع للخواء الروحي الذي تتخبط به المجتمعات الاستهلاكية الغربية.

ارتبطت بداياته بموجة السينما الاحتجاجية ذات النبرة اليسارية

السينما الإيطالية لم تكتف بمنح بيكولي فضيحته الأشهر في «كان»، بل أهدته أيضاً حضوره الأكثر تألقاً على الكروازيت، من خلال رائعة ماركو بيللوكيو الشهيرة «الارتماء في الهاوية»، التي نال عنها جائزة أفضل ممثل، عام 1980.
شكل عقد الثمانينيات حقبة ذهبية في مسار بيكولي. بعد تتويجه في «كان»، بات حريصاً على تنويع تجاربه واختيار أدواره بعناية. ولا تكاد تحصى الروائع التي تقمص أدوارها الرئيسية في تلك الفترة (33 فيلماً روائياً لسينمائيين من 7 جنسيات مختلفة)، بداية من «حكايات الجنون العادي» لماركو فيريري (1981) إلى «ميلو في مايو» (لوي مال ـ 1989)، مروراً بـ «شغف» (غودار – 1981)، و«العينان، الفم» (ماركو بيللوكيو - 1982)، و«جنرال الجيش الميت» (لوتشيانو توفولي – 1982)، و«ذهاب، عودة» (كلود لولوش – 1984)، و«الطهرانية» (جاك دوايون – 1986)، و«دم فاسد» (اليوم ـــ س:20:00) الذي كان أول عمل سينمائي تجرأ على تناول موضوع الإيدز في فرنسا (ليوس كاراكس – 1986).
خلال هذه الفترة الخصبة، خاض بيكولي تجربتين عربيتين بارزتين، من خلال تقمصه دور الجنرال كافاريللي في رائعة يوسف شاهين «وداعاً بونابرت» (1984)، ودور «قصار» في فيلم مارون بغدادي المثير للجدل «الرجل المحجب» (1987 ــ 25/11 ـــ س:20:00). ثم تجددت تجربته تحت إدارة يوسف شاهين، لاحقاً، من خلال تقمصه دور «آدم» في فيلم «المهاجر» عام 1994. وكان للمخرج الكردي العراقي هينر سليم نصيب من تجارب بيكولي السينمائية العربية، من خلال فيلم «سطوح باريس» (2007). هنا تقمص بيكولي دور عجوز فرنسي يسكن وحيداً في غرفة خادمة تطل على السطوح الباريسية. وفي عزلة السطوح، تنشأ صداقة قوية بينه وبين لاجئ عراقي يدعى «عمار» يسكن في غرفة مجاورة.
مع بداية الألفية الجديدة، كان بيكولي قد بلغ منتصف العقد السابع. وإذا به يعود الى الواجهة، ممثلاً ومخرجاً، بعدما كانت قد تراجعت نجوميته خلال النصف الثاني من التسعينيات. ولا شك في أن رائعة المعلم البرتغالي مانويل دي أوليفيرا «سأعود الى البيت» التي أبهرت الجمهور والنقاد في «كان» عام 2001، لعبت دوراً بارزاً في تجدّد حيوية بيكولي وشهيته السينمائية.
في السنة ذاتها، قدّم عمله الثاني كمخرج «الشاطئ الأسود» بعدما كان قد أخرج فيلماً أول بعنوان «هكذا إذن»، عام 1998، ثم ختم هذه الثلاثية بـ «ليست تلك تماماً هي الحياة التي كنت أحلم بها»، عام 2005. كما أعار صوته لشخصية الراوي في النسخة الفرنسية من رائعة الفلسطيني إيليا سليمان «يد إلهية» (جائزة لحنة التحكيم في «كان» ــ 2002). وبعدها بعام واحد، كرر التجربة ذاتها في فيلم «نبوءة الضفادع» (2003 ــ 25/11 ــ س:16:00)، لعراب سينما التحريك الفرنسية جاك – ريمي جيرير، الذي نال جوائز عدة واستقطب أكثر من مليون مشاهد في فرنسا.
توالت بعد ذلك أدوار البطولة في أفلام مرموقة كـ «ليلي الصغيرة» (كلود ميلر – 2003)، و«المرآة السحرية» (مانويل دي أوليفيرا – 2005)، و«حدائق الخريف» (أوتو إيوسلياني – 2006)، و«غبار الزمن» (ثيو أنجلوبولوس – 2008)، وصولاً إلى رائعة ناني موريتي «هابيموس بابام» التي كانت مسك ختام مشاركاته في «كان» عام 2011. يومها، أجمع رواد الكروزيت على أن بيكولي كان يستحق جائزة أفضل تمثيل ثانية، بعد تلك التي نالها عام 1980، تثميناً لألقه المتجدد على الشاشة، ولأدائه المبهر في دور الكاردينال ملفيل من الفاتيكان. لكن لجنة التحكيم كان لها رأي مغاير، إذ منحت الجائزة الى جان دوجاردان، عن دوره الصامت في فيلم The Artist.

«استعادة ميشال بيكولي»: بدءاً من اليوم حتى 26 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الاشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/332661 ـــ