مساء الليلة، تعود رائدة طه إلى «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت) بعملها الجديد «36 شارع عباس ـــ حيفا». يحمل العرض المونودرامي الحكواتي اسم عنوان منزل في مدينة حيفا، سرعان ما سيبدو مجرّد غطاء لطبقات وقصص كثيرة كتبتها وتؤديها الممثلة الفلسطينية بمفردها على الخشبة، من إخراج اللبناني جنيد سري الدين.
بعد «ألاقي زيّك فين يا علي» (2015) للينا أبيض، خال بعضهم أن طه قد تكون تخلّصت من قصتها الذاتية مع والدها الشهيد علي طه. قالتها ومضت. لكن عملها الجديد الذي يبتعد عن تجربتها الشخصية، يستكمل مسار طه في توثيق القصّة الفلسطينية عبر المسرح، مستعيدة وظيفة الرواية الفلسطينية الشفوية في الشتات، ودور المرأة الفلسطينية في إحيائها ونقلها. تدخل طه بيت «36 شارع عباس» وتفلش محتوياته، لتبنيه أمامنا على الخشبة. تملأه بالأثاث وتعمّر جدرانه، وتستعيد أسماء وأصوات من سكنوا فيه، والأهم مشهد البحر الذي يسنده من الخلف. البحر الذي كان آخر ما رأته عائلة أحمد أبو غيدة لدى مغادرتها حيفا بعد سقوطها في 22 نيسان (سبتمبر) عام 1948. في تلك الفترة، تخبرنا طه، شاهد الناس «سفناً حاملة فلسطينيين رايحين، وسفناً حاملة يهود جايين». لا نعرف كم من الوقت بقي المنزل خالياً، منذ بدأ الاحتلال الاسرائيلي بتوزيع أملاك الفلسطنيين على المستوطنين، ليقع المنزل بيد رجل نمساوي يدعى أبراهام. ومنه سيشتري المحامي الفلسطيني علي الرافع شقة يسكن فيها إلى الآن مع زوجته سارة وابنته نضال. ما يغير مسار الحكاية ويشحنها، هو قرار عائلة الرافع بإعادة المالكين الأوائل إلى بيتهم. تراوح القصتان بين تواريخ وتحوّلات فلسطينية مفصلية، من النكبة، إلى النكسة وصولاً إلى فلسطين المعاصرة وواقعها الحالي. يعي جنيد سري الدين جيداً قدرة رائدة على سرد الحكايات والقص بطلاقة. لهذا يتخلص من عناصر ومؤثرات إخراجية كثيرة، باستثناء الإضاءة (غيوم تيسون) والموسيقى (شريف صحناوي)، ليقوم العرض بأكمله على أدائها المنفرد على المسرح.
يبدأ العمل بتلقائية من يفتح باباً ليدخل إلى بيت يعرفه جيّداً. تقصّ رائدة علينا كابوسها المزعج. لكن منذ اللحظات الأولى لبداية العرض، لن نتنبّه إلا متأخرين إلى أن رائدة قد أوصلتنا إلى قلب الحكاية الأساسية، التي تحيلنا، بكل تفاصيلها، إلى القصة الفلسطينية المستمرّة منذ ما يقارب سبعين عاماً. يعود هذا إلى البناء المتين والمضبوط للعمل (دراماتورجيا جنيد ورائدة)، الذي تمكن بسلاسة من احتواء قصص وآراء ومواقف مختلفة بلا زوائد تعرقل زخم السرد. تكمش رائدة أدوات السرد بمهارة وتتحكّم بمفاصله، تلجأ أحياناً إلى السخرية السوداء. تدخل في شخصية وتخرج من أخرى على الملأ، من دون أن يلغي ذلك هويتها الحقيقيّة على المسرح.

الرؤية الإخراجية عمدت إلى بتر حضور المكان، في محاكاة للاحتلال والحدود التي تفصلنا عن فلسطين
رائدة الحكواتية تتكلّم الآن، هي صلة الوصل بيننا وبين القصة وأزمنتها، وبيننا وبين نضال وعلي وفؤاد ودينا وسارة وأحمد. هكذا تنهض بشخوصها وبتاريخهم، وتقلد لهجاتهم: نضال هي صديقة رائدة، التي حملت اسم والدها العسكري. «الناس بقولوا انو نحن فلسطينية الـ 48 صوتنا عالي، بس لأنو ما حدا بدو يسمعنا ولا يفهمنا»، بهذا تبرر نضال صوتها المرتفع. أمها سارة حارسة المنزل. تتصاعد الحكاية، ثم تعيدنا إلى علاقة علي الرافع وزوجته وسارة التي لم تترك القدس إلا حين اطمأنت إلى أن منزلهما يطل على البحر. تتوقف رائدة كأنما تذكرت شيئاً للتو، تأخذ وقتها في إخبارنا عن تفتيش الجندية الإسرائيلية لها في مطار اللد، المطار الذي انطلق منه والدها علي طه لخطف طائرة إسرائيلية عام 1972. وفي اتخاذ النص لهيآت الشخوص وحيواتهم وتجاربهم اليومية، يبتعد العمل عن الترميز الذي بقي ملاذ المسرحيين الفلسطينيين كغسان كنفاني، واميل حبيبي في التعبير عن الواقع الفلسطيني المؤلم. الواقع الفلسطيني المعاش يصير استعارة قائمة بذاتها هنا. يخلو النصّ من أي خطاب سلطوي أو عام، من دون أن يوقعه هذا في حياد ما. هناك نقد، أكان مبطناً أو ظاهراً أو ساخراً، للواقع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وللواقع الفلسطيني ـ الفلسطيني. وإن كانت طه، في انتقائها لقصة واحدة لعائلتين تحملان الهوية نفسها، قد اختارت التركيز على الواقع الفلسطيني الفلسطيني، فإن حكايتهما لا تكفّ عن الإشارة إلى الاستلاب الإسرائيلي الأكبر للأراضي الفلسطينية. الأهم أن بيت أبو غيدة/ الرافع هو منزل فلسطيني، أعادتنا رائدة إلى تفاصيله، من المكتبة والمطبخ وغرف النوم، وصولاً إلى الدرج المؤدي إلى البحر. ليس ذلك بلا معنى. فالبيت في العرض، هو رمزية لعلاقة الفلسطينيين الملتبسة والممزقة بمكانهم. الفلسطينيون الذين هجروا البلاد كما فعلت عائلة أبو غيدا المشتتة بين لندن وبلدان أخرى، وأولئك الذي بقوا في الداخل، يواجهون الاحتلال الاسرائيلي يومياً، ومع ذلك، بقوا مسكونين بذنوب كثيرة إحداها السكن في بيت لا يعرفون من أصحابه سوى أسمائهم، ولا من أسلوب حياتهم سوى مقتنيات قليلة ظلت على حالها. منذ انتقالها اليه، عرفت عائلة الرافع أن البيت ليس بيتها. ورغم انقضاء سنوات طويلة، فإنها لم تكد تمتنع يوماً عن تذكير عائلتها بهذا، مع جملتها المألوفة «الله يرجّعهن على بيتهن ويرجّع كل الفلسطينيين عبيوتهن». كأن تردادها المتواصل لهذه الجملة، قد حقق أمنيتها أخيراً بعودة أصحاب المنزل عام 2010. لهذا تبدو المرأتان سارة ونضال، هما بطلتا العرض وذاكرته في خيار يعيد الاعتبار إلى المرأة الفلسطينية ودورها في قص الحكاية وصناعتها. وبقدر ما عملت رائدة طه، عبر السرد، على استدعاء فلسطين كمكان أو كبيت، فإن الرؤية الإخراجية العامة لجنيد سري الدين عمدت إلى بتر حضوره، في محاكاة للمسافة والاحتلال والحدود التي تفصلنا عن فلسطين من جهة، وللخيال الذي يحكم تصوّرنا عنها.

«36 شارع عباس»: 20:30 اليوم حتى 15 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/753010




حياة في المنافي

من القدس، مكان الولادة، غادرت رائدة طه إلى عمان خلال النكسة عام 1967، ثم إلى بيروت، فأميركا حيث نالت شهادة الماجستير في الإعلام. انتقلت بعدها إلى تونس حيث عملت مستشارة إعلامية لياسر عرفات، لتعود إلى رام الله بعد سنوات، وتشغل منصب رئيسة الهيئة الإدارية لمركز «خليل السكاكيني». أما بيروت التي غادرتها عام 1983، فقد أعادتها بعد عقود لكن ممثلّة على الخشبة في «٨٠ درجة» (2013) لعليّة الخالدي، و«عائد إلى حيفا» (2013) مع المخرجة اللبنانية لينا أبيض التي شاركت في عملها المسرحي الغنائي «بترا روكس»، ثم «ألاقي زيّك فين يا علي» عام 2015، الذي استمعنا فيه إلى نسختها الشخصية، والبعيدة عن الرواية والعامة والسلطوية لقصة والدها الشهيد علي طه. في «36 شارع عباس ــ حيفا» تعاونت رائدة طه مع المخرج المسرحي جنيد سري الدين، الذي راكم خبرة تجريبية طويلة مع «فرقة زقاق» المسرحية. بدأ التعاون من إقامة فنية لـ «صندانس» في المغرب، بعدما عمل الثنائي معاً على ورش عمل كممثلة ومخرج. ما لفت سري الدين هو أسلوب القص وطريقة رائدة في إخبار الحكاية، حتى في الجلسات العادية، بالإضافة إلى أنها تكتب نصوصها بنفسها. أكملت رائدة أبحاثها ومقابلاتها مع شخوص مسرحيتها، ليلتقيها جنيد مجدداً في إقامة فنية لـ «صندانس» في أميركا، حيث وضعا المشاهد الأساسية للعمل. رؤيته الإخراجية المعاصرة تولي الاهتمام الأبرز للحكاية ولطريقة قصها فيما تعزز من فكرة فلسطين كمكان «محرّم».