لا يمكن الحديث عن تجربة محمد بكري (1953) الرائدة من دون الحديث عن فلسطينيي 1948 كتجربة حياة مختلفة. قد يتضايق فلسطينيو الداخل من هذا التصنيف ولو كان مقبولاً، خصوصاً إذا قورن بـ «فلسطينيي إسرائيل» أو «عرب إسرائيل»... تسميات يطلقها الكثير من جيرانهم العرب عليهم.
بكري القادم من قرية البعنة الجليلية الذي أقام في يافا المدينة التي أحب (أسمى إحدى بناته على اسمها) ردحاً من الزمن، والد النجوم صالح وزياد وآدم وثلاثة أولاد غيرهم، لا يمكن إلا إطلاق صفة فنان مبدئي بنّاء عليه. المبدئية هي صفة بكري التي كلّفته الكثير، أوّلها أنه قلما وجد ممولاً لأفلامه، مما دفعه للاستدانة. وكما يعلم الجميع، فإن السينما تحتاج مالاً، مما يدفع كثيرين للتنازل عن مبادئهم. محمد بكري لم يفعل، وهو صاحب المقولة الشهيرة: «لو أنني ما زلت شاباً، لعملت في الأشغال الشاقة كي لا أحتاج أحداً». أما صفة البنّاء فيمكن اعتبارها أساسية. الصهاينة حاولوا ــ وما زالوا- احتواء الفلسطيني المتشبث بأرضه. بالتالي، أي حراكٍ فني يعتبرونه حراكاً صهيونياً/ اسرائيلياً ضمن المجتمع العبري. وبكري خريج جامعة تل أبيب، درس المسرح والأدب العربي متخرجاً عام 1973، مما يجعله بحسب الصهاينة جزءاً من النسيج الصهيوني. لكنه رفض ذلك وقرر أن يكون ممهداً لطريق الفنانين الفلسطينين بعده، فقدم سينما مناهضة للصهاينة، والدليل وثائقي «جنين جنين» الذي أرّخ للمجزرة التي قام بها الاحتلال الصهيوني ضد سكان مخيّم جنين. بعدها، تعرض للملاحقة وللمحاكمة مراتٍ عدّة، مما يعتبر وساماً على صدر هذا الفنان الفلسطيني. كان بكري يقدّم وجهة النظر الفلسطينية البحت لما يحدث. يؤرّخ لفكرة أنَّ الفلسطيني ليس جزءاً من النسيج العبري، ولا جزءاً من هذه الكذبة المسماة الكيان الإسرائيلي. في الإطار عينه، لا يمكن إلا الحديث عن بكري بصفته علامةً لناحية استخدام الفن كرسالة مقاومة. وفي إجابته على سؤال حول السينما الفلسطينية، أجاب: «نعم، لدينا صناعُ سينما جيدون، لكن ليس لدينا مدارس لتعليم السينما، ولا استديوهات تصوير، ولا بنية تحتية. كل هذا لأنه ليس لدينا وطن». إن القضية الأساس هي «الاحتلال» بالنسبة له؛ بالتالي الفن جزء من المعركة وليس خارجها البتة.
كالعادة، كانت بدايات محمد بكري في المسرح. قدّم الكثير من المسرحيات المونودرامية أولاها «المتشائل» (راجع الكادر في مكان آخر من الصفحة) المأخوذة عن الرواية الساخرة «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» للروائي الفلسطيني إميل حبيبي (أيضاً من فلسطيني الداخل). إنها الرواية/ المسرحية التي ستقدّم بكري إلى المجتمع العربي، ومفسّرةً حال الفلسطيني في المزج بين المتفائل والمتشائم في بوتقة واحدة تشبه واقعه. ثم قدم «الياطر» عن قصة للكاتب السوري حنّا مينا، ثم «موسم الهجرة إلى الشمال» عن رواية الأديب السوداني الطيب صالح، ليختتم الرباعية بـ «أبو مرمر» التي كتبها هو بنفسه. ذلك لم يمنع بكري من تقديم أعمال نقلاً عن نصوص لأسماء عالمية وعربية كلوركا، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، وشكسبير.

«أنا أريد أن أروي قصتي وقصة شعبي» (م ب)

عرف بكري الشهرة، لكنها لم تغير شيئاً بداخله، فقدّم العديد من الأفلام الفلسطينية الناجحة، مثل «حكاية الجواهر الثلاث» للمخرج ميشيل خليفي، وأخيراً «واجب» للمخرجة آن ماري جاسر، مشاركاً ابنه صالح في البطولة. من جهةٍ أخرى لا يمكن نسيان التعاون مع المخرج رشيد مشهراوي في «عيد ميلاد ليلى»، مقدماً شخصية القاضي الذي يصبح سائق سيارة أجرة في سباقٍ محموم للوصول إلى عيد ميلاد ابنته السابع. وهذا كان التعاون الثالث له مع مشهراوي بعد فيلم «حيفا»، و«الملجأ». شارك بكري كذلك في العديد من الأفلام الأوروبية مثل «حنا ك» للمخرج اليوناني كوستا غافراس الذي كان من أوائل الأفلام الأوروبية التي شرحت القضية الفلسطينية وتناولتها بنظرة «مختلفة» عن السائد آنذاك.
أخرج بكري العديد من الأفلام الوثائقية تناولت القضية الفلسطينية ومأساتها؛ من «1948» «زهرة» عام 2009، فضلاً عن تقديمه برنامج «وجهاً لوجه»، وكتابة العديد من السيناريوهات من دون أن ننسى إدارته لـ «مسرح السرايا» في مدينة يافا لفترة من الزمن.
محمد بكري مجبول من طينة خاصة بين الفنانين، هو يشبه الصبّار إلى حدٍ كبير. هذه هي أرضه، يرفض التعاون مع محتليها، ويقاوم لأجلها على طريقته الخاصة. كثيرون يسألون: لماذا يقوم بذلك؟ الإجابة أكثر بساطة: «أنا أريد أن أروي قصتي وقصة شعبي».