هناك أناس يعيشون في بلاد وآخرون تعيش بلادهم فيهم. «وحدها فلسطين لا أقول لها وداعاً بل إلى اللقاء». كتب المعلم الأديب المؤدب المربي المناضل الحالم محمد كامل خشّان، أبو صديقي عماد الذي أفخر بصداقته، والذي يعيش في نيويورك أينما منعته الحدود والأوراق للمثول لوداع أبيه إلى مثواه الأخير.
محمد كامل خشّان، هذا الشيخ الطفل البريء الحالم ربى أجيالاً فلسطينية تعتز بكونها أبلغ. وتحلم بالعودة. هذا الرجل الذي خط بروحه «الخط الشمالي» روايته التي تحكي وتحاكينا في تفاصيل امتدت على أكثر من سبعين عاماً. منذ نعومة أظفاره في «سحماتا»، ومن ثم اقتلاعه منها إلى أن استقر وعاش حياته كلها في لبنان.
سحماتا تبعد عن قريتي «البعنة» في الجليل الغربي الأعلى بضعة كيلومترات. حالفني الحظ أن تحدثت مع أبو عماد مرتين، المرة الأولى قبل أكثر من سنتين وكان ما زال معافى، وكان صوته كصوت عماد صديقي تماماً، والمرة الثانية قبل شهرين وكان صوته كصوت عماد مريضاً حتى أنه تعذر عليه إنهاء المكالمة. كنا قد اتفقنا أن أهاتفه عبر «السكايب» من سحماتا لأوثق اللقاء بالصورة وليدلني على سحماتا بخباياها وحاراتها وبيوتها وأسمائها، لكي تبقى ولا تموت بعدما غاب أصحابها.

كنت أحلم منذ مراهقتي أن أصل إلى بيروت معقل الكرامة، الثورة والمقاومة. قبل ثلاثة أيام من وصولي الآن إلى بيروت بمبادرة أصدقاء في جمعية «أساس»، وجريدة «الأخبار» لتقديم بعض العروض السينمائية والمسرحية، تذكرت أبو عماد فذهبت برفقة ولدي حسن لأصور المكان، لعلي أقطف بعض ما تقع عليه يدي من سحماتا المهجرة. قطفت وصوّرت ما قطفت من رمان وبطم وزعرور، والتقطت بعض حجارة المكان وخشبة يابسة من جذع شجرة ماتت. كان الطقس حاراً جداً وقد طغى الأصفر واليباس سحماتا. كنت حزيناً فأوعزت ذلك للحرّ الشديد معزياً نفسي. لاحظ حسن ابني ذلك، فسألني كم هو عمر أبو عماد. قلت: تجاوز الثمانين ولكنه مريض جداً، وليتني أصل غداً إلى بيروت لأراه وأسلمه بيدي هذه الفلقات من حجر وشجر. بعد ساعتين، وصلت إلى بيتي في البعنة حاملاً رمانتين وثلاث حجارات صغيرة و«كمشة» من البطم والزعرور وخشبة. بعد دقائق من دخولي إلى البيت، فاجأني ولدي آدم وهو يقرأ وصية صديقي أبو عماد التي كان قد كتبها ونشرها على الفايسبوك.
توفي محمد كامل خشان في نفس الساعات التي كنت فيها في سحماتا. لم يتحقق حلمي بلقائه. حلمت أن أكون في بيروت منذ كنت طفلاً مراهقاً. تحقق حلمي في الستينات من عمري في هذه الزيارة، ولم يتحقق حلمي في لقاء أبو عماد بسحماتا بملامسة حجارة بيته وخشبته اليابسة وثماره التي فارقها منذ أكثر من سبعين سنة.
لعن الله من جعل البيوت تموت بعدما غاب أصحابها.
* ممثل ومخرج فلسطيني
بيروت ١٨ أيلول ٢٠١٧
(ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا).