في الدورة الأولى من «بينالي الجنوب» (البينالي الدولي للفنون المعاصرة في أميركا اللاتينية)، سيشارك لبنان والشرق الأوسط ضمن جناح خاص تنسقه الأكاديمية والكاتبة اللبنانية نايلة تمرز بعنوان «الشاعرية والسياسة والأمكنة». ينطلق المعرض في 23 أيلول (سبتمبر) في «المتحف الريفي للفنون الجميلة» في توكومان الأرجنتينية.
هناك ستجتمع أعمال أربعة أجيال من الفنانين اختارتها تمرز، انطلاقاً من العلاقة بين الطبقات الشاعرية والسياسية التي تحملها الأمكنة والمساحات الطبيعية في لبنان والعالم العربي. «العلاقة بين السياسي والشاعري قديمة» تقول تمرز، في دلالة على العلاقة الوطيدة التي شغلت أرسطو منذ قرون طويلة. أما فكرة الأمكنة، فتتقاطع مع فكرة الإقليم (بمعناه السياسي) الواسع الذي يطرحه «بينالي الجنوب» في دورته الأولى تحت عنوان «الجنوب الكوني». البينالي الذي انطلق أخيراً بتنظيم «جامعة الثالث من فبراير الوطنية» في بوينس آيرس، يتخذ من 16 دولة حول العالم مساحة لعرض الأعمال، من بينها دول الأرجنتين، والأورغواي، والباراغواي، وتشيلي، والبرازيل، والبيرو، وكولومبيا، وكوبا. من ناحية أخرى، يهدف البينالي إلى فتح فنون أميركا الجنوبية على العالم، داعياً إلى تعزيز الحوار بين القارّة والعالم، عبر الفنون كافّة. تتجاوز فعاليات الحدث المحيطات وحدود القارات لتطأ أفريقيا وآسيا والولايات المتحدة وأوروبا، التي تحتضن معارض وفعاليات ثقافية وفنية مختلفة في موازاة البينالي. وفي توجّه المنظمين لتجاوز الحدود، موقف سياسي من كل ما يحدث في العالم اليوم، حيث تتتكاثر الجدران والحواجز السياسية والعسكرية. ضمن تجربتها الأكاديمية، والكتابية والتنسيق الفني للمعارض، شغل موضوع الأمكنة والمساحات نايلة تمرز أيضاً. هكذا اختارت فنانين من خلفيات متعددة وأجيال تبدأ من صليبا الدويهي (1915) وإيتل عدنان (1925) وصولاً إلى الفلسطينية صبا عنّاب (1980)، واللبنانية دانيال جنادري (1980).

تشيّد صبا عنّاب، مجسّمات ورسومات للشتات الفلسطيني في الكويت
عبر الأعمال، سنتلمّس أهمية المكان الذي لا يزال هاجساً لدى الفنانين اللبنانيين والعرب، منذ علاقة الروّاد الأولى والبديهية مع محيطهم الريفي غالباً، والتي أخضعت المشاهد الطبيعية للتجريب التقني كما في لوحات صليبا الدويهي. العمل على الأمكنة يصبح أكثر تعقيداً وتركيباً مع الفنانين المعاصرين الذين يعيدون التفكير فيه بالتزامن مع التطوّرات السياسية التي تشهدها المنطقة حالياً، بعدما كانت قد حفلت بها سابقاً.
بالتعاون مع غاليريهات لبنانية («غاليري تانيت»، و«غاليري أجيال»، و«غاليري مرفأ»، و«غاليري صالح بركات») يمنحنا المعرض لمحة عن المكان بوصفه مصطلحاً بدلالات متعددة: أمكنة الشتات، الأمكنة السياسية، أمكنة الذاكرة، وأمكنة الهجرة، والأمكنة بمعناها المجرّد والأشمل. في توجّه تخصصي هندسي وتوثيقي، تشيّد الفلسطينية صبا عنّاب، مجسّمات ورسومات للشتات الفلسطيني في الكويت الثمانينات في مشروعها «الرحالة» (2016). وفي «أحد عشر مشهداً لجبل أرارات» (2009)، تتبع صور جلبير الحاج قمم جبل أرارات وتجسيداتها المختلفة داخل الفضاءات الحميمية للأرمن في لبنان. تأخذنا اللبنانية ميراي قصّار في فيديو «أطفال الأوزاعي ــ ضد نرسيس» (2014) إلى شاطئ الأوزاعي، مظهّرة علاقة الأطفال بهذه البقعة المعدمة من المدينة. أما سينتيا زافين، فتتناول علاقة الصوت والمكان من خلال تجليات الصوت داخل الغابة في شريطها «الصوت والغابة» (2016). وبين الرسم والفوتوغرافيا، تنخرط جنادري في الاختلافات الزمنية التي تفصل الوسيطين بالعودة إلى ذاكرتها الشخصية في The Fall (2015). أما متتاليات نديم الأصفر في «حيث أنتهي أنا تبدأ أنت» (2015 – 2017) فتنقب في السرديات المختلفة التي تكتنزها جبال لبنان. سنذهب مع إيتل عدنان في رحلة بصرية وأدبية إلى جبال تامالبيس في كاليفورنيا عبر كتابها «رحلة إلي جبل تامالبيس» (بوست أبولو بريس ــ 1986).

* «الشاعرية والسياسة والأمكنة» ضمن «بينالي الجنوب»: ابتداء من 23 أيلول (سبتمبر) حتى 31 كانون الأول (ديسمبر) ــ «المتحف الريفي للفنون الجميلة» في توكومان الأرجنتينية.
http://bienalsur.org




الفنانون المشاركون

صبا عنّاب


البحث في معنى المكان يأتي في موازاة العمل الفني لصبا عنّاب (1980)، لتتحوّل ممارستها الفنية إلى بحث في أنماط السكن التي تفرضها الظروف السياسية على الفلسطينيين. في «أرض بلا خراف» (2011)، رأينا العبث الإسمنتي الذي يحكم التجمعات العمرانية العشوائية المؤقتة، كما في المخيمات الفلسطينية وفي أحزمة البؤس. استثمرت الفنانة والمهندسة الفلسطينية ذاكرتها وتجربتها العائلية مع اللجوء في الكويت في معرضها «الرحالة» (2016). أنجزت الرسومات أو الدراسات الهندسية، ومجسمات مصنوعة من الحجر الجيري والرخام والخشب والإسمنت، في محاولة لتجسيد السمات الأساسية للعمارة في الكويت الثمانينيات، والتي تحيلنا إلى العزل المديني التي تفرضه العمارة على اللاجئين.

جلبير الحاج


المجموعة عبارة عن سلسلة مصوّرة لجبل أرارات بين أرمينيا وتركيا وإيران. مشهد تكررت رؤيته في بيوت الشتات الأرمني في برج حمود في بيروت، وهو الذي دفع بالمصوّر اللبناني جلبير الحاج (1966) إلى الاشتغال على سلسلته الفوتوغرافية «أحد عشر مشهداً لجبل أرارات» (2009). لم يستدع الأمر زيارة الجبل، لأن الناس جاؤوا به إلى البيوت. عدسة الحاج تلتقط لوحات وصور جبل أرارات وتجسيداته المختلفة داخل الفضاءات الحميمية. وإذ تمتزج الصور بأثاث المنازل، وتتجاور على الجدران صور أخرى تخص سكان البيت، فإنها تحيلنا إلى الذاكرة الجماعية والخاصة للشتات الأرمني التي ترمّز البلاد بجبل أرارات. أما خيار جلبير الحيادي بتصوير رسومات الجبل لا الجبل نفسه، فإنها قبل كل شيء تحتفظ بالمسافة التي تفصل الناس عن بلادهم.

ميراي قصّار


في «أطفال الأوزاعي ــ ضد نرسيس» (16 د ــ 2014)، تصوّر ميراي قصار (1963)، تداخل المياه والتشكلات الخارجية والتركيبات البصرية للبحر والصخر على شاطئ الأوزاعي. بجمالية عالية، تشكّل هذه الأمزجة المتداخلة لوحات لحظوية متحركة، فيما تخترق المشهد أجساد أطفال يركضون. تستلهم قصّار شريطها من أسطورة نرسيس الذي لم يقدر رفع عينيه عن وجهه المنعكس في البحيرة.
تنقل أسطورتها إلى شاطئ الأوزاعي في إحدى ضواحي بيروت الفقيرة والمعدمة، وفي هذا المكان البائس الذي لا نرى شيئاً من ظروفه في الشريط، كالمجارير مثلاً... تستهتر اجساد الأطفال بكل شيء، تقفز على الموج، تتحرّر من الظروف الجغرافية السياسية وتصنيفاتها المسبقة.

سينتيا زافين


تختبر سينتيا زافين (1970) البعد المكاني للصوت في فيديو «الصوت والغابة» (2 د ــ 2016). العلاقة بين الصوت والفضاء الذي يحويه هي الرابط المخبأ والظاهر الذي تستكشفه الفنانة والموسيقية اللبنانية المعاصرة في عملها، وهذا ما لا يبتعد عن توجّه زافين التي تستخدم الصوت كعنصر أساسي لأعمالها الفنية ووسائطها المختلفة: الفيديو والفوتوغرافيا والتجهيز. في فيديو «الصوت والغابة»، تسير الطفلة ألكسندرا (8 سنوات) في الغابة، وهي تغني، ترفع صوتها وتخفضه باستخدام نوطة موسيقية واحدة. الصمت والصوت، حضوره وغيابه، يعيدان التفكير بالصوت ومدى انغماسه في هذا المكان الطبيعي. تلجأ زافين إلى التلاعب البصري والصوتي، حيث تبدو حركة الفتاة وفمها هما ما يصدران الصدى لا الصوت الأصلي.

دانيال جنادري


اختارت دانيال جنادري (2015) المشهد الطبيعي الذي يواجه منزل جدّتها في قرطبا في مجموعتها The Fall (2015). تستخدم الفنانة اللبنانية المقيمة في نيويورك، الأكريليك والزيت لرسم الاختلاف الذي تخفيه الصور الفوتوغرافية المأخوذة لمكان معين في الوقت نفسه. وفيما تؤخذ الصورة بسرعة قياسية، تمدد جنادري اللحظات عبر الوقت الذي يتطلبه الرسم والتلوين. تتعامل مع المساحات الطبيعية كعنصر صاخب، كشاهد على الهوية الفردية والجماعية. وهذا ما تحاول إيقاظه في لوحاتها التي ستعرض منها واحدة في البينالي. تتبنى جنادري وجهات نظر مختلفة لرؤية المشهد نفسه، في محاكاة للذاكرة والحركة والهجرات، ومدى تأثيرها على رؤيتنا الفردية للصور.

نديم الأصفر


في تنقيبه عن الطبقات التي تشكّل المساحات الطبيعية للبلاد، يتعقّب نديم الأصفر (1976) جبال لبنان في مجموعته «أنتهي أنا حيث تبدأ أنت» (2015 ــ 2017). ما هي السرديات التي تكتنزها هذه الأماكن؟ يحاول الفنان اللبناني تظهيرها في سلسلاته الفوتوغرافية ضمن توجّه بصري جمالي وشاعري لتصوير الجبال في الليل والنهار وفي أوقات مختلفة من اليوم.
تصبح عدسة الأصفر، وسيطاً إلى التأمل في جبال القبيات ووادي قنوبين وجبل مكمل ووادي قزحيا، حيث تظهر تكراراته البصرية كمحاولات عبثية للقبض على عناصرها حيث «كل شيء له معنى، كل شي في انسجام، الدمار، النباتات، الجيولوجيا.
الماضي، الحاضر، الممنوع، الرغبة والموت

إيتل عدنان


في موازاة عملها بوسائط ولغات مختلفة، تنقّلت إيتل عدنان (1925) بين مدن عديدة. هكذا يشكّل المكان باعثاً أساسياً لأعمالها الشعرية والبصرية بين بيروت وباريس وسان فرانسيسكو. وإذ لا يكاد المكان يغيب عن أعمالها، اختارت نايلة تمرز أحد دفاترها المصنوعة من ورق الأرز «ليبوريللو» (2015) التي تجاورت فيها رسوماتها وضرباتها اللونية مع قصائد كتبتها بخط يدها لشعراء عرب من بينهم أنسي الحاج وبدر شاكر السياب وغيرهما. تشارك عدنان أيضاً بكتابها «رحلة إلي جبل تامالبيس» (بوست أبولو بريس ــ 1986)، وفيه نص طويل حول رؤى عدنان لجبل تامالبيس في كاليفورنيا، وأبعاده الطبيعية والفنية إلى جانب رسومات للجبل بالزيت والألوان المائية والحبر.

صليبا الدويهي


أرادت نايلة تمرز العودة إلى الوجه الحداثي للمشهد الطبيعي في لبنان عبر لوحة «من دون عنوان» (1978). لذا كان لا بدّ من اللجوء إلى أعمال صليبا الدويهي (1915 ــ 1994). شهدت تجربة الفنان اللبناني تقلبات حادّة بين التصويرية الكاملة قبل أن يتأثر بالحداثة الأوروبية ويذهب نحو التجريد والاختبارات اللونية في رسمه للمناظر الطبيعية. رسم الدويهي الوديان والجبال التي كانت تحيطه. بقيت هذه الأمكنة والوجوه الريفية حاضرة في أعماله رغم تغيرّ الأساليب. وإذ اختيرت لوحة صليبا الدويهي لتجاور الأعمال المعاصرة، فإنها تؤكّد أولاً على أن الاهتمام بالمساحات الجغرافية والمناظر الطبيعية ليس طارئاً، بل يكمن في صلب الاشتغال الفني العربي منذ بداياته.