تفاجأت كثيراً اليوم وأنا ألقي نظرة سريعة على الأخبار المتعلقة بالمخرج زياد دويري. إذ اقتضت المصادفة أن اكون الآن في غمرة كتابة دراسة مطولة عن فيلم «فالس مع بشير» (2008) (1)، أفنّد فيها التزوير التاريخي الذي يبنيه الفيلم بتقنيات فنية ساحرة ومؤثرة، أوقعت كثيراً من اللبنانيين والعرب تحت تأثيرها. نعم، الآن، في منتصف أيلول، أكتب عن أيلول 1982. ذكرى الاجتياح، ومقتل بشير الجميل، ومجازر صبرا وشاتيلا.
صيف 82: ذكرى انقسام وطن بأكمله

اعتقدت أنني أكتب عن التاريخ، فإذا بي أكتب عن الحاضر. أهي فعلاً مصادفة؟
في الدراسة التي أعدها، آتي على ذكر زياد دويري، بل أذكر فيلمه الأول «بيروت الغربية» (1998). وفي معرض حديثي عن السينما، أسأل: كيف نتأسف للصورة التي يبنيها الإسرائيلي عنا، بل كيف نغضب على الرواية التي يقدمها الإسرائيلي عن تاريخنا، فيما نحن لا نقوم لا ببناء صورتنا عن ذاتنا، ولا بسرد روايتنا التاريخية الخاصة بنا؟ فعلى من تقع المسؤولية في تزييف التاريخ؟ على من بنى كل تاريخه على الزيف، أي «إسرائيل»؟ أم على مَن لم يقدم الرواية الحقة لتاريخه، أي نحن؟ وفي هذا السياق، أقول إنّ «بيروت الغربية» هو من الأفلام الروائية اللبنانية النادرة التي أثّرت فيّ. ذلك أنّ المخرج حوّل تجربته الخاصة وقصته مع الحرب إلى إبداع سينمائي أبكانا وأضحكنا. هكذا شعر جيل لبناني بأكمله بأنّه يرى نفسه ممثلاً للمرة الأولى في فيلم سينمائي (2) مشغول بمهنية عالية (بالمعنى الهوليوودي) (3) لم نعهدها من قبل في لبنان. ولأنّ الفيلم مشغول بهذه المهنية، ولأنّه يحاكي ذاكرتنا، لاقى الرواج التجاري والشعبي الفريد من نوعه في ذلك الحين.

لكن ماذا جرى؟ ماذا جرى لمخرج ذاك الفيلم المؤثر؟ بعد بضع سنوات، أخرج زياد دويري فيلماً باللغة الفرنسية عنوانه «ليلا تقول» (2004) (4)، وهو فيلم يحكي قصة حب بين شاب فرنسي من أصول عربية، وفتاة فرنسية. فكرت يومها، أنا المعجبة بفيلمه الأول: ربما أراد زياد دويري أن يرتاح قليلاً من لبنان ومن قصصه، فأخذ طريقاً مختلفاً، لكنه لا بد سيعود ليكمل ما بدأه من إعادة زيارة لتاريخنا العام ولتاريخه الشخصي. فيساعدنا على إعادة صياغة ذواتنا. لعله يكمل، على طريقته، ما بدأه زياد آخر في المسرح (5)...
لكن من عام 2004 حتى عام 2012، لم يخرج زياد دويري، حسب ما قرأت، سوى حلقة واحدة من مسلسل رعب (6).
في عام 2012، خرج إلى الشاشات فيلم «الصدمة»، الذي صوّره دويري في تل أبيب (7). أصبت فعلاً بصدمة. كيف؟! ولماذا؟! كيف انتقل زياد دويري من المشهد الافتتاحي الشهير في «بيروت الغربية»، الذي يقوم فيه البطل، طارق، بفرض النشيد الوطني اللبناني على حساب النشيد الفرنسي في باحة مدرسته... إلى تل أبيب؟!

«بيروت الغربية»: في البدء كانت الهزيمة

تساءلتُ: هل من الممكن حقاً أن ينتقل فنان كلياً هكذا من ضفة إلى أخرى؟ أم ثمة إشكال منذ البداية، لم أنتبه له في غمرة احتفالي بما ظننتُ أنّه انطلاقة جديدة في السينما الروائية اللبنانية؟ استعدت ذكرياتي عن «بيروت الغربية». ثم شاهدت الفيلم من جديد. أعجبت به كما في المرة الأولى. لكن انتابني شعور يشبه الانزعاج أو الضيق. تذكرت، نعم، لقد شعرت بنفس هذا الانزعاج في المرة الأولى. لكنني لم أتوقف عنده كثيراً وقتذاك. ما سببه؟ تساءلت.
نعم. إنّه المشهد الأخير بشكل أساسي. طارق، الفتى المراهق بطل الفيلم، الذي استوحى المخرج على الأرجح شخصيته وقصته من سيرته الذاتية، ووالدته على الشاطئ في بيروت.

يريدنا أن نستنتج أنّ الذين
يُقتلون هم الأطفال، وأنهم يُقتلون على يد الفلسطينيين!

طارق يصوّر والدته بكاميرا سوبر 8 (وهي إحدى شخصيات الفيلم الأساسية). الأم تضحك. الفيلم انتقل إلى الاسود والأبيض. لقطة قريبة جداً لوجه الأم وهي تضحك. ثم تبطيء تدريجي للحركة، وصوت تكتكة آلة السوبر 8. تبدأ ضحكة الأم بالتحول، بفعل التبطيء المتزايد، إلى تكشيرة تكبر وتكبر، حتى تتوقف اللقطة، وينتهي الفيلم على وجه الأم، وقد بدا شنيعاً ممسوخاً. أما المشهد الذي سبق الأخير، فهو مشهد والد طارق وقد بدا منسحباً مما يجري حوله، يصرّ على البقاء وسط حرب يعتقد أنّها حدث وينتهي. نراه يعزف على العود، وهو يلبس البيجاما. فكرت: هذا هو الأب المنهزم في الحرب. جيل بأكمله. وهذه هي الأم التي تحولت إلى مسخ، الأرجح بفعل نفس الحرب.
فإذا كان دويري قد وصل إلى هذا الاستنتاج عن الحرب ونتائجها منذ فيلمه الأول، فهذا معناه أنّه ربما طوى الصفحة في حينها. كأنما ليس لديه، خارج تلك القصة الشخصية، أي شيء يقوله أو يرويه، أو يبدعه سينمائياً عن لبنان وناسه (8)

«الصدمة»: «زنجي المنزل» و«زنجية الحقول»

أعود إلى الفيلم الذي أثار كل الجدل، أي «الصدمة». ولكي لا أتَّهم في معرض كتابتي هذه، بأنني أحكم على الفيلم انطلاقاً من موقف سياسي محض، أجبرت نفسي اليوم على مشاهدته. لكن لم تكد تمضي دقائق قليلة حتى توقفت. فالطبيب العربي الاسرائيلي، بطل الفيلم، يمنح جائزة من قبل جمعية الجراحين الاسرائيليين، فيلقي خطاباً بالعبرية يقول فيه إنّه كان يشعر في الماضي بغضب كبير في «هذا البلد»، لكنه حصل على منحة لدراسة الطب ودخل معهداً مرموقاً وأجرى عمليات لإسرائيليين، فلعله حان الوقت لكي يغيّر المرء (يقصد هو العربي) من قناعاته ويتطلع إلى المستقبل. تصفيق حار من الحضور.
صرت أجد صعوبة كبرى في تحمّل هذه الترهات التزييفية للواقع والتاريخ. وأحياناً لا أعود حتى أرغب بتقديم الحقائق الداحضة. هنا: كل الإثباتات التي تدل على أنّ عرب 48 هم «مواطنون» من الدرجة الثانية والثالثة... هذه بروبغندا، أقول. بروبغندا في قالب سينمائي فني. هكذا تشتغل معظم أفلام هوليوود منذ عقود. ولكنها بروبغندا تصل إلى أعداد هائلة من الناس، وتسهم بنعومة في تغيير مواقفهم ومشاعرهم تجاه الواقع الذي نعيشه. وهي، في هذا الفيلم وفي غيره، تغيّر الواقع والتاريخ، ونحن نتفرج.
أجبرت نفسي على متابعة المشاهدة. الدقيقة 7 من الفيلم: مدينة تل أبيب تظهر عبر النوافذ الزجاجية الكبيرة في المستشفى، حيث الطبيب البطل يتحدث مع زميل إسرائيلي له. يخبره الزميل قصة فلسطيني صائم في رمضان، أجبره جنود إسرائيليون على تدخين سيجارة لكي يسمحوا له بالدخول للصلاة في الأقصى، فما كان من الرجل إلا أن هاجم الجندي، فأصابه، ثم أصيب هو. جواب الطبيب البطل: لن ننتهي أبداً من هذه القصص... يدوي انفجار. لقطات سريعة لسيارات إسعاف تهرع في الشوارع، تذكّر بتغطية تلفزيونية إخبارية: نحن أمام «الواقع». ثم، على مدى دقيقتين: مشهد تلو الآخر لأولاد مصابين يتم إدخالهم بسرعة إلى الطوارئ. لقطات قريبة (close- up) متكررة لوجوه الأطفال المصابين وأجسادهم. الدم يغطي أعضاءهم الصغيرة، وشعرهم. الطبيب البطل يحاول إنقاذ صبي مصاب إصابة بالغة. لقطات قريبة جداً لوجه الولد ولجسده المشوه، وهو يخضع للعملية. الأب يدخل كالمجنون وهو يصرخ: أين ابني؟! لا نرى ضحايا كباراً، فقط أولاد.
ما هو الشعور الذي تتركه سلسلة المشاهد (Séquence) هذه، من حيث خياراتها الفنية السينمائية؟ أليس من المفروض أن يشعر المشاهد بالتعاطف مع أطفال تل أبيب الذين يتم قتلهم وجرحهم في عملية تفجير قامت بها امرأة فلسطينية؟ إذن، يريدنا المخرج الفنان أن نتعاطف أولاً. ويريدنا ثانياً أن نستنتج أنّ الذين يُقتلون هم الأطفال، وأنهم يُقتلون على يد الفلسطينيين. انقلب موقع الضحية والجلاد، وتعاطفنا مع الضحية.
ما ذكرتني به حقيقة بدايةً الفيلم، أي مشهد الطبيب العربي الأنيق وهو يخاطب بالعبرية، كما وكل قصته، هو التمييز الذي أقامه مالكوم أكس بين «زنوج المنزل»، و«زنوج الحقل». فلقد وصف الأوائل بأنّهم «الزنوج المدجّنون»: وضعهم السيد الأبيض في منزله، فكانوا يأكلون ما يأكل، ويلبسون ما يلبس، ويتحدثون مثله بعبارات ولغة «حضارية». وكانوا «يحبون سيدهم أكثر مما هو يحب نفسه. فإذا مرض السيد سألوا: ما بنا؟ هل نعاني من المرض؟ وكانوا مستعدين لتقديم حياتهم دفاعاً عن بيت سيدهم، في حال نشوب حريق مثلاً. ومهمة هؤلاء هي مواجهة «زنوج الحقل» ــ وهم الأسوأ حالاً ـ واحتواؤهم في حال تمردوا على السيد الابيض(9). الطبيب «العربي» البطل هو مثال جيد على «زنجي المنزل». كل ما فيه يشبه سيده: لغته، لباسه، بيته، علاقاته، موقعه. أما زوجته الفلسطينية من الضفة، والتي فجّرت نفسها، فهي بلا شك من «زنوج الحقول»، لأنها تمردت على سلطة سيدها. وبما أن زوجها «زنجي المنزل»، لم يستطع منعها وحماية منزل/ مدينة سيده من الأذى، لم يبق له إلا أن يبدأ مهمة محاولة فهم ما فعلته، فهو لا يصدق أنّها قد تقوم بمثل هذا العمل (ربما اعتقد أنها تدجنت مثله)! لكن الأرجح أنّه سيروح ضحية: فـ«زنوج الحقول» لا شك سيحاسبونه على ولائه للسيد الأبيض، وزلم السيد سيحاسبونه على تعرض منزل السيد للخطر. آه... هو الضحية إذن! هو العربي المثقف المحايد المسالم الذي حاول الاندماج مع الآخر وطي صفحة الحروب! ها هو «يأكلها على الميلتين» من «المتطرفين من الجهتين»! لكن الفيلم لا علاقة له بالسياسة، بل هو قصة إنسانية مؤلمة. أكيد.
اليوم، ها هو دويري يعود إلى الواجهة، وقد جاء إلى لبنان لعرض فيلمه الأخير «قضية رقم 23». لم أشاهد سوى الإعلان الترويجي لهذا الفيلم الذي خرج إلى الصالات يوم 14 أيلول (ذكرى مقتل بشير الجميل) ولكنني فهمت أن الرقم 23 يحيل على الفترة الذي كان فيها بشير الجميل رئيساً للبنان، وأن شخصيات الفيلم اثنان، يحصل بينهما خلاف: واحد لبناني ينتمي إلى القوات اللبنانية، وواحد فلسطيني.

ينتجون تاريخنا المزيف ونحن نتفرّج

حاولت أن أفهم كيف انتقل المخرج السينمائي، الذي كنت معجبة بعمله الاول من «بيروت الغربية» إلى «الصدمة»، ثم إلى «قضية رقم 23». قرأت ثم رتّبت المعلومات التالية في أسطر ثلاثة:
1998 فيلم «بيروت الغربية»: البلد: لبنان (فرنسا)، قدّم الى أكاديمية الاوسكار، لكن لم يُقبل ترشيحه.
2012: فيلم «الصدمة» البلد: فرنسا، بلجيكا، قطر، مصر، صوّر في «اسرائيل» مع ممثلين اسرائيليين وفريق عمل اسرائيلي، حاز جوائز مهمة في عدة مهرجانات.
2017: فيلم «قضية رقم 23»: البلد: لبنان، فرنسا، اختير للترشح للاوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي.
من الواضح أن زياد دويري كان يحتاج إلى تمويل كي يخرج أفلامه، شأنه شأن كل سينمائي، بعدما قدّم للبنان أوّل فيلم فني تجاري ناجح بعد الحرب. السؤال: هل وجد التمويل في بلده؟ الجواب: لا. ذهب إلى فرنسا وأخرج فيلماً فرنسياً محضاً، لم يلق نجاحاً فعلياً. وجد نفسه يعبر صحراء كبيرة. لا تمويل = لا أفلام. ولكنه مخرج ويجب أن يخرج أفلاماً، والأفلام التي يحبّ إخراجها تكلّف كثيراً من المال. ماذا يفعل؟ هنا، لا بدّ أنه وضع نفسه أمام خيارين اثنين، اعتقد هو أن لا ثالث لهما: إما أن يعدل عن المشاريع السينمائية المكلفة، ويتوجه صوب سينما مستقلة ذات ميزانية متدنية، فيكتفي بإخراج فليم واحد كل عشر سنوات، هذا إذا حالفه الحظ. وإما ان يذهب ويأخذ أي تمويل يتوفر له، حتى وإن جاء ممن كان منذ زمن يعتبرهم أعداءه (ولهؤلاء، كما نعرف، وجوه كثيرة غير الوجه الإسرائيلي القح). عرفنا منذ عام 2012 ماذا اختار دويري ونعرف الآن كيف يُكافأ على هذا الخيار. لكن نحن؟ يبدو أننا كمجتمع وكمسؤولين وكمثقفين وكأصحاب رؤوس أموال وكدول وككل ما شئنا، لم نفهم بعد أهمية السينما في بناء الثقافة الوطنية والوعي الجماعي والرواية التاريخية. تركنا لغيرنا مهمة بناء ثقافتنا ووعينا وهويتنا، كما رواية تاريخنا. أما أعداؤنا، فلقد فهموا ذلك منذ قرن تقريباً، حين اختاروا الاستثمار في شركات سينمائية صارت اليوم عملاقة. وصارت تؤثر في وعي العالم أجمع وتقدّم روايتها لتاريخها الذاتي ولتاريخ غيرها، وتنشر قيمها عند كل الشعوب، ونحن أنفسنا الذين نصرخ اليوم، تربينا بدرجات متفاوتة ولا زلنا، على أفلام تلك الشركات. على ماذا إذن، الآن، وكلما حدث أمر مشابه؟ لا بدّ من اتخاذ موقف، هذا صحيح. لكن كان علينا، ولا زال علينا، أن نعمل ليل نهار، وبكل الأساليب والإمكانات، لكي نفرض على حكوماتنا إنشاء صناديق دعم للسينما، لكن أيضاً: لنقنع شركاتنا وأغنياءنا ومتموّلينا في كل أقطار العالم، وكل من أراد لنا خيراً، بالاستثمار في السينما اللبنانية.
أفكّر بذاك المخرج الذي عشت معه ومع فيلمه الأول أملاً في أن يصير لنا سينما «عن جدّ»، أي أفلام ذات جودة سينمائية عالية، وقصص تشبه قصصنا، وممثلون يشبهوننا، ورواج تجاري شعبي واسع. أفكر بأنه عليّ أن أنتقد أفلام دويري بشراسة أكبر مما أفعل الآن مع «فالس مع بشير». فهذا الأخير فيلم إسرائيلي محض، منسجم مع إسرائيليته ومع تاريخ بلده التزييفي. أما زياد دويري فإنه، كسينمائي أعني، أشبه بالمسخ الذي لم يعد لبنانياً ولم يصبح بعد شيئاً آخر. هو «زنجي المنزل»: لغة ولباس وسلوك المستعمِر، وعقل ودواخل المستعمَر. المسخ الذي هو أيضاً بلده، بلدنا. المنقسم على تاريخه وهويته. وما ذهاب دويري الى «إسرائيل» واختياره لتلك المواضيع، إلا تأكيد على انقسامنا وعلى بشاعة هذا الانقسام، بل مساهمة في تجييش الانقسام من خلال الانخراط في مسار سينمائي بات في نظري مشبوهاً. فتسليط الضوء سينمائياً، وبهذا الإلحاح، على انقساماتنا- وإن كانت في جزء منها فعلية - لا يبدو لي خياراً فنياً محضاً، أي بريئاً. فكيف يطلب منّا زياد دويري ألا نحاوره إلا كفنان (11)؟

أيلول 1982- ايلول 2017: حروب الانقسام التي لا تصنع تاريخاً

أما الادانة، أي الموقف، فإنها تأتي بالنسبة لي بعد كل ما سبق.
نعم، نتّهم، وندين، نتّهم المخرج اللبناني زياد دويري، وندينه لتصويره فيلماً في «إسرائيل» مع فريق إسرائيلي، ولتقديمه صورة مؤدلجة مزيفة مقيتة عن واقعنا. نتهّم وندين كل لبناني تعامل ويتعامل مع إسرائيل. أما القول بأنّ مكانة دويري كمخرج لبناني معروف تعفيه من المحاسبة، فهذا حقاً أمر غريب! إن كونه مخرجاً لبنانياً معروفاً لا يخدم قضيته بل يجعلها أسوأ، وعلينا أن نحاسب «دوبل»: أولاً على تعامله مع «اسرائيل»، وثانياً على تعامله مع «اسرائيل» من موقعه كمخرج لبناني معروف يحمل مسؤولية تجاه بلده وموقع بلده في صراعات المنطقة. ولكن في ذكرى أيلول الـ 82 ماذا نقول؟
اليوم، أيلول 2017: قسم من اللبنانيين يحتفل بذكر «اغتيال الشهيد» بشير الجميل، وقسم آخر يتذكّر مجازر صبرا وشاتيلا، وكل مجازر الاجتياح الاسرائيلي بحق المدنيين اللبنانيين.
قبل 35 عاماً، أيلول 1982: قسم من اللبنانيين يحتفل، بكل ما للكلمة من معنى، بدخول «اسرائيل» لإخراج الفلسطينيين من لبنان. وقسم من اللبنانيين يُقتل قصفاً وحصاراً همجياً على يد «اسرائيل».
ماذا اختلف بين 82 واليوم؟ هل بنينا وعياً جماعياً وطنياً واحداً؟ لا. هل كتبنا رواية تاريخية وطنية موحّدة لاجتياح 82؟ لا. لم نفعل في الماضي ولن نفعل اليوم. وسيظلّ هذا التاريخ بالذات موقع خلاف، حتى يصير لنا وطن وتصير لنا دولة. أي: حتى ينتصر طرف ما، من هنا أو هناك، فيكتب التاريخ الذي يكتبه عادة المنتصرون (12). حتى ذلك الحين، سيظلّ تاريخنا تواريخ، أي روايات، متناقضة. نعم، لم نكتب تاريخنا الموحّد لأنّ أحداً منا لم ينتصر، وهذا يعني شيئاً واحداً: أننا ما زلنا في حالة الحرب. فحروبنا في لبنان تظلّ كلّها بلا هزيمة وبلا انتصار، وبالتالي بلا نهاية، ونظلّ نحن بلا تاريخ نبني فيه ومعه وعينا وهويتنا وثقافتنا الوطنية.
حتى ذلك الحين، سيطلع لنا أكثر من زياد دويري واحد، وسندين أفعاله وأقواله على طول الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي والمنابر والإذاعات والتلفزيونات. ثم لعلّنا ننسى الموضوع حتى يأتي الينا حدث ثقافي آخر شبيه به، حدث لم نكن نحن من بدأه، ولا من أبدعه، ولا من أنجزه، فنستنفر لردّ الأذى ومواجهة التطبيع والتنديد بمحاولات كيّ الوعي. لكن الوقت الآن هو وقت تحويل جبهات الإدانة والرفضة والمقاطعة - على أهميتها - الى جبهات إبداع وإنتاج ثقافي وطني واسع النطاق والتأثير.
فالمقاومة التي ننتظرها، بل المقاومة التي يجب أن نشكّلها، في أوسع وأشمل دائرة ممكنة، هي المقاومة التي تنقلنا من ردّة الفعل إلى الفعل: الفعل الإبداعي المنتج للوعي، والفعل الثقافي المنتج للهوية وللتاريخ.
كيف؟ من خلال إبداع قصص تحاكي قصصنا، وتحويلها الى أفلام روائية لتساهم، من خلال فعل تمثّلنا لأنفسنا، في إعادة تشكيل ذواتنا وصياغة هوّيتنا وبناء تاريخنا. إن السينما هي، بلا أدنى شكّ، أهم أركان هذه المقاومة.

* باحثة ومترجمة لبنانية
1: الفيلم هو للمخرج الاسرائيلي آري فولمان. رشّح لجائزة أوسكار، وحاز جائزة غولدن غلوب، كما جوائز عالمية. الفيلم مشغول بتقنية الـ «أنيماشن» الكلاسيكية مع Adobe flash cutouts. يحكي عن محاولة جندي سابق، هو المخرج نفسه، استعادة ذاكرته المتعلقة بمشاركته في اجتياح لبنان عام 82.
2: أذكر على سبيل المثال مشهد العائلة وهي تهرع إلى الملجأ وسط انهمار القذائف وخوف الأم على ابنها. لا شك بأن التصوير والتمثيل جعلانا نشعر بأننا نحن هذه العائلة. هكذا بكيتُ لا شعورياً في هذا المشهد، إذ استعدت خوف أمي علينا، و«الدربكة» إلى الملجأ التي كانت جزءاً مأساوياً من يوميات جلينا.
3: لا شك في أن عمل دويري، كمساعد تصوير، مع المخرج الأميركي كوانتن ترانتينو قد أسهم في ذلك.
4: الفيلم، وعنوانه بالفرنسية Lila dit ça، مبني على رواية صدرت عام 1997 لروائي يكتب اسم مستعار (شيمو).
5: أعني بالتأكيد زياد الرحباني. وبالرغم من الاختلافات الكبيرة بين الاثنين، إلا أنّ فيلم «بيروت الغربية» ذكّرني، في بعض حواراته وبعض «قفشاته»، بمسرح زياد.
6: المسلسل هو Sleeper cell.
7: سيناريو فيلم «الصدمة» من كتابة زياد دويري وجويل توما، وهو مبني على رواية لياسمينا خضرا، الروائي الجزائري الفرنكوفوني، والعسكري والسياسي السابق. أما بطل الفيلم، علي سلمان، فهو من فلسطينيي الـ 48، وبطلة الفيلم التي تلعب دور الزوجة الفلسطينية هي الممثلة الاسرئيلية رايموند أمسالم. غالبية الممثلين في الفيلم اسرائيليون. الطاقم العامل في الفيلم هو، بمعظمه، خليط من الاسرائيليين والفرنسيين، مع بعض الأسماء العربية. من أبرز الشركات المنتجة والموزعة للفيلم: «كوهين ميديا غروب»، «فوكس وورلد» وهي تابعة لـ Universal، أي واحدة من أشهر الشركات الأميركية، «وايلد بانش»، وهي شركة ألمانية، «3 ب برودكشن»، وهي شركة فرنسية يتعاون معها منتجو الفيلم: جان بريها، وخاصة المخرج والمنتج الجزائري رشيد بوشارب. كل هذه الشركات والأسماء معروفة وفاعلة في السينما العالمية.
8: هذه حال كثير من الكتّاب أو المبدعين الذين، بعد أن ينجزوا عملاً أولاً مبنياً أو مستوحى من سيرتهم الذاتية، ينضب لديهم مخزون القصص، فيجدون أنفسهم في مأزق إبداعي. بهذا المعنى لجأ زياد دويري بعد فيلمه الاول إلى إخراج فيلمين من سيناريوهات مقتبسة.
9: انظر مالكوم أكس Message to the grassroots. وعلى فكرة: شكراً ياسمينا خضرا (وكل الكتاب أمثاله)، فلقد أكدت نظرية مالكوم أكس وفرانز فانون، أنت الجزائري بالأخص، في أنّ «زنوج المنزل» هم من استملك السيد عقولهم ووعيهم، لا أجسادهم، كذا مع المستعمرين.
10 – أنا لا أتحدث بالطبع عن سينما المؤلف ولا عن السينما الوثائقية، ولا عن الأفلام القصيرة وفنّ الفيديو، فكلّها أنواع فيها عدد كبير من المخرجين اللبنانيين والمخرجات اللبنانيات، ومن كل الأجيال، ونأمل بأن نستطيع تكريس دراسة لهذه الإبداعات.
11 - نحن نعرف كيف تسهم الجهات المموّلة للفيلم في التأثير على كل خيارات المخرج، بل على كل توجّهات الفيلم. ففي هوليوود، لا يعدو المخرج ـ عدا بعض الاستثناءات- كونه موظفاً عند شركات الإنتاج، وهو موظف يمكن استبداله في أي لحظة. وباستطاعة الشركة المنتجة أن تتدخل في كل شيء يتعلق بالفيلم، من اختيار المخرج، الى تغيير السيناريو، الى الممثلين والطاقم التقني، فهي التي «تصنع» الفيلم بالدرجة الأولى، لا المخرج.
12- خذ مثلاً كل الدول التي نعتبرها «متحضّرة» مثل فرنسا وبريطانيا: فلقد بدأ تاريخها بعد حروب دامية مديدة وحّد فيها طرف كل البلاد، على حساب أطراف أخرى (كاثوليك وبروتستانت مثلاً، إلخ). أما حضاراتنا ومجتمعاتنا، فلقد تميزت منذ القدم وحتى اليوم بنسيج متنوّع كثيف، لم يستطع طرف واحد أن يصهره في وحدة متجانسة، وإن كان الاسلام هو أكثر من صهر هذه المجتمعات منذ الفتوحات، فإنه لم يلغ التنوّع الكبير الموجود في أقطارنا. لكننا نشهد منذ عقود إضعافاً حقيقياً لهذا التنوّع، ساهمت فيه «اسرائيل» (الطامحة لدولة يهودية صرف) بشكل مباشر، مع كل من لفّ لفّها وخدم مشروعها، مثل داعش مؤخراً.