يذهب الطيّب تيزيني إلى حقل الألغام مباشرة، في مواجهة الأسئلة الشائكة نافضاً غبار التقية عنها، فهو لا يجيد المراوغة والألعاب اللغوية الجانبية في تشريح بثور الجسد العربي المريض. كان عليه أن يفحص التراث العربي الإسلامي أولاً (من التراث إلى الثورة)، ليس من موقع الضدّ، إنما لاستثمار ما هو حيوي وقابل للعيش، وفي المقابل نبذ الفائض منه باعتباره حالة إعاقة. وتالياً فإن العملية الفكرية بالنسبة إليه، تنهض على التراكم لا الاختزال، عبر عمل علمي منهجي في المقام الأول، تتحكم بحيثياته مسطرة نقدية صارمة. مفكّر قومي لفحته ريح الماركسية وفكرة العدالة. هكذا خرجت أفكاره من أسوار جامعة دمشق إلى الفضاء العام، من دون مهادنة، أو انزلاقات نفعيّة. لذلك، أشهر نظريته في «الفساد والإفساد»، معتبراً ذلك جوهر المشكلة في الدولة الوطنية، وبؤرة خراب المثقف، حين ينخرط في لعبة السلطة. ينبغي أن نستعيد أيضاً دراسته المبكّرة لأعمال شكسبير، والفكر الألماني، والتأثرات في البيئة الصوفية المحليّة، مما أنتج نصّاً فكرياً ناصعاً يخصّه وحده، وتصديره إلى المتلقي بوضوح، ما جعله في مرمى الريبة، كمحصلة لأطروحاته الراديكالية في مواجهة العسف السلطوي.

فالدولة الوطنية العربية ـــ وفقاً لما يقوله ـــ باتت دولة أمنية ومافيوزية تصدّر الفساد من جهة، والعقم المعرفي من جهةٍ ثانية. لا يتوانى هذا المفكر السوري عن استخدام أكثر المفردات وضوحاً في حطام الحياة اليومية، مميطاً اللثام عن أهوال ما نعيشه راهناً في سجالات صريحة، مفتتحاً مدوّنته الثرية بقراءة الثنائيات أولاً: العلمانية والدين، والعدل والحرية، والعقل والضمير، قبل أن ينتقل إلى مناقشة ثلاثية الفساد (الاقتصاد الخراجي المافيوي، وتهشيم القوانين، وإفساد النخب)، وصولاً إلى (الاستبداد الرباعي) الذي يتمثّل في امتلاك الحقيقة المطلقة، والاستئثار بالسلطة والثروة، ومصادرة الرأي العام، وذلك بتجفيف المجتمع من أي رهانات مناهضة للاستبداد. هكذا راح يحفر في هتك أسرار هذه المنظومة وفضحها على الملأ، فهو لم يتوان عن إعلان موقفه الواضح والمساند للانتفاضات العربية في شراراتها الأولى، مطالباً بالتغيير، وضرورة أن يستعيد المثقف موقعه الذي غادره قسراً. لم يكن موقفه هذا من باب الثأرية بقدر تطلّعه نحو أفق آخر يحمي الدولة الوطنية من غربانها ومفسديها.
في كتابه «استكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة» (2011)، سنجد سجلّاً مفتوحاً لكل الأسئلة المؤجلة والملحّة حول الكرامة البشرية، والمواطنة، وحق العمل، والعجز القسري الذي أصاب المثقف، وعمليات بيع وشراء الذمم، والتنبيه من خطورة الثقافة المعولمة، وضرورة الإصلاح الديمقراطي، واستعادة الهوية الوطنية. وسوف يتابع مشروعه الفكري الجريء بطرح أسئلة إضافية أفرزتها اللحظة المستعصية، والإخفاقات العمومية وقمع الحريّات، داعياً إلى تأسيس منظومة جديدة تقوم على ثلاثية التسامح والكرامة والحرية لتجنب الفشل التام، والانزلاق نحو الطائفية بدلاً من تعزيز فكرة العروبة، وكذلك البناء على حوامل جديدة تفترق عن أسئلة عصر النهضة، و«البدء من الصفر.. ابدأوا بفتح الدائرة».